“نداء الوطن”… والاصرار على الدوران في حلقة البحث عن ممول؟
إعلان موت المال السياسي... لا الصحافة الورقية
تضيء أزمة صحيفة “نداء الوطن” المالية، على أزمة الصحافة الورقية في لبنان، والتي ارتبط تمويلها، حصراً، بالمال السياسي والدعم المادي من القوى السياسية، أو رجال الأعمال الطامحين إلى موقع سياسي، أو الداعمين منهم لمحاور داخلية وإقليمية.
و”نداء الوطن” التي أبلغت العاملين فيها أنها بصدد تعليق إصدار نسختها الورقية، أواخر آذار/مارس الحالي، كانت إحدى آخر “المغامرات” الإعلامية في البلاد، والتي توسّم اللبنانيون خيراً في إصدارها، بعد توقف صحف أخرى عن الصدور، مثل “السفير” و”المستقبل” و”الحياة” و”الاتحاد” التي صدرت لأشهر قليلة، وتوقفت عن الصدور بمجرد وفاة رئيس مجلس إدارتها مصطفى ناصر.
اختارت الصحف الورقية الأخرى الإقفال، إثر تزامن عاملَين. أولهما تراجع الكعكة الإعلانية في لبنان، بعد انخفاض أسعار النفط العام 2014 في مرحلة أولى، ثم تعمق أزمة الاعلانات مع الضربة المالية التي تعرضت لها المصارف والمؤسسات العامة في الدولة اللبنانية التي كانت من أبرز الداعمين لوسائل الاعلام.
أما العامل الآخر، فهو التحولات السياسية الإقليمية التي لم تعد تجد في لبنان ساحة مناسبة لتسويق مشاريعها عبر الإعلام، فلم يعد هذا البلد همّاً، ولا إعلامه أولوية. وبالتالي، فإن المال السياسي الذي كان ضرورة لتسويق مواقف ووجهات نظر في الداخل اللبناني، تلاشى مع انتفاء الحاجة إليه.
وسط هذا الواقع، أقفلت صحف عريقة، وبات الدخول في مشروع مشابه، بمثابة مجازفة خاسرة سلفاً وغير مجدية، لكنه في الوقت نفسه، مثّل ضرورة بالنسبة للقادرين على تمويله. وكان رجل الأعمال الراحل، ميشال مكتّف، واحداً من “آخر المغامرين” في تمويل صحيفة ورقية، هي “نداء الوطن” التي وُلدت بنفَس سياسي معارض لـ”حزب الله”، ورأس حربة في مواجهته، و”وَصفة” لتوازن إعلامي في الصحافة الورقية التي يسيطر الإعلام المؤيد للحزب على صدارته، في مقابل “محايدين”، أو “متوازين”، مثل “النهار” التي لم تصطف ضد الحزب، وما زالت من أبرز الصحف المكتوبة التي تنشر الموقف، والموقف المقابل، والرأي والرأي الآخر.
والذهاب إلى مغامرة إعلامية مشابهة، في ظل التحولات الرقمية وشيوع الصحافة الرقمية وولادة إعلام المنصات، يتخطى أي مفهوم متصل بالـ”بريستيج”، ولا يُمكن أن يُصنف كوَجاهة يريدها البعض، وهي أحد المفاهيم الخاطئة التي يحاول تسويقها. فالصحافة الورقية، مازالت تحتفط بهيبتها في المشهد الإعلامي، وبقدرتها على التوثيق، بمعزل عن وسائل التوثيق الأخرى.
بالنسبة إلى الجمهور وصانعي القرار والدوائر الرسمية، هي الكلمة الموثقة، والإصدار الذي ينتظر قرّاءه على مكاتب السفراء والوزراء وصانعي القرار. تتّسم الصحافة المكتوبة بالجدية، وتؤخذ المعلومات فيها على محمل الجدّ، ويتعاطى الجميع معها بمسؤولية، ويسِمونها بالمصداقية المطلقة، إضافة إلى اعتبارها “صندوق بريد سياسي”، انطلاقاً من الإدراك المسبق لقنوات تمويلها، وهي عوامل متضافرة ثبتت حضورها في الفضاء العام.
وعلى الضفة الإعلامية، تحتفظ الصحافة الورقية بصدارة المعلومات، وهي محل ثقة سياسيين وفنانين مازالوا حتى اليوم، يرفضون منح التصريحات للصحافة الإلكترونية التي ينظرون اليها على أنها منافس لآليات النشر الخاصة بهم، مثل صفحاتهم في منصات التواصل الاجتماعي.
ويزداد الأمر حضوراً في العرف الإعلامي اللبناني، القائم على إعادة نشر التلفزيونات لمواد صحافية مكتوبة كل صباح، وهو أمر لا ينطبق على المواقع الالكترونية. ويسري العُرف على مبدأ قائم على أن الصحف لا تنقل عن صحف، إلا في ما ندر، والشاشات لا تنقل عن شاشات، إلا في ما ندر أيضاً، بينما يُحسب الموقع الالكتروني الناقل عن موقع آخر، على أنه “صحافة نسخ ولصق”، وتالياً، يفقد احترامه في الوسط الإعلامي.
من هذا الإرث الاعتقادي بمفاهيم إعلامية شائعة، لم تتوقف مغامرات الاستثمار في مشروع إعلامي، خاسر سلفاً، وكانت “نداء الوطن” جزءاً منه، وكذلك صحف عربية مازالت تُمول على سبيل الاستمرار، وخُلقت الى جانبها استثمارات في البورصة وقطاع النشر وبيع الصور والتصميم الالكتروني، أو في أي قطاعات منتجة أخرى، لتأمين استمرارية المشروع السياسي الذي تؤيده تلك الصحف من دون استنزاف مالي.
خسرت “نداء الوطن” هذه الفرصة، مع رحيل ميشال مكتّف، فيما لم تتورط في المغامرة أحزاب وقوى سياسية، لا لأنها تمتلك منابرها الرقمية حكماً، ولا لأنها ترتبط بعلاقات مع إعلام مرئي أوسع انتشاراً لبث موقف، حتى لو كان هذا الاعلام، في طبيعته، سريعاً، ويراعي حق النسيان. بل لأنها، عملياً، لا تمتلك مشروعاً سياسياً ضخماً يحوز مواصفات التحقق، كما كان الأمر العام 2005 في حقبة “ثورة الأرز”، وهو حقها في تجنّب دعم “مشروع إعلامي خاسر”، من وجهة نظرها.
إزاء هذا المشهد، يصبح السؤال عن أسباب عجز الصحافة الورقية عن الاستمرار، ملحّاً. لماذا الاصرار على الدوران في حلقة البحث عن ممول، من دون خوض مغامرات أخرى لتمويل ذاتي؟ وهو ما ذهبت اليه نماذج عالمية من الصحافة الورقية، مثل “إكسبرسين” السويدية التي تحقق أرباحاً تقارب المئة مليون دولار سنوياً. أو نموذج تقديم محتوى استقصائي جاذب يدفع القراء الى دفع اشتراكات للنسختين الالكترونية والورقية، يؤمن استمرارهما، كما هو الحال في الصحف والمجلات الأميركية. أو حتى الاستفادة من المحتوى الناطق باسم الخط السياسي، لترويجه في منصات التواصل الاجتماعي، لتحقيق أرباح، علماً أن “نداء الوطن” من الصحف القليلة التي اختبرت التواجد في “تيك توك”، ومازال النشر في المنصة بمعدلات محدودة يومياً.
أزمة “نداء الوطن”، يفترض أن تقرع جرس الإنذار لإعلان دفن فرص التمويل السياسي، أو الأفراد المموِّلين، نهائياً. البحث عن نموذج تمويل خاص، Business model، هو الوسيلة الأنجع لمواجهة الاستسلام، وإعلان موت الصحافة الورقية… بوِلادات جديدة.
نور الهاشم- المدن