فاطمة عبدالله لموقعنا ضمن فقرة “من أهل البيت”: “الشقاء صنعني وفي المهنة لا أراقب سوى نفسي”!

نحن لا ندّعي التكريم أو التبجيل في فقرتنا “من أهل البيت”.. بل نوجّه تحية وكلمة شكر لأهل مهنة المتاعب.. فننحني إجلالاً أمام قدير نتعلّم منه.. ونصفّق لزميل برع وأجاد ونجح.. ونحاول أن نسلّط الضوء على مغمور علنّا نكون باب عبور.. من صنّاع الخبر والرأي إلى الجمهور والقرّاء..

ننقل إليكم خبرات أجيال متنوّعة ونستقرئ آراءهم في واقعنا الإعلامي.. السياسي.. الفني.. أو الاجتماعي.. عارضين لواقع مهنة المتاعب بعدما أصبحت “صناعة الخبر” لا تحتاج لأكثر من هاتف.. بينما الخبر اليقين يناضل من أجله الصحافي الحقيقي.. واللقاء اليوم مع الزميلة الصديقة في صحيفة الشرق الأوسط فاطمة عبدالله.

**********

* بدأت “من لا شيء تقريباً”… فقط من الحلم
*أحترم سقف المكان المُحتَضِن لقلمي
* اخترتُ الفن وسلّمته قلمي لأنّه يجمع ويُبلسم ويمنح العزاء..
* التكيّف ذكاء إنساني.. المساومة على المحتوى والأسلوب غير مقبول
* قد تكون الدراما اللبنانية مُغيّبة لكن مكانة لبنان في المنافسة محفوظة

********

كم جميل أنْ تحاور زميلاً واثقاً من نفسه.. يترك لعمله التحدّث عنه..
وكم صعب أنْ تكتب عن صاحبة قلم تتفنن برسم كلماتها لتنتج “لوحات فنية” ..
بعيدة عن الأضواء.. لكنها في قلب الحدث.. وغالباً ما تصنعه بحبرها الرصين..
قلمها جريء لا يُهادن ولا يُجرّح ولا ينحاز.. بل يُحاكي الواقع برشاقة المعاني وثقلها..
من مدرسة الشهيد جبران تويني.. إلى مدرسة متكاملة في الإعلام الراقي..
لا تخجل بالكشف عن الحفر بالصخر.. صنعت مكانتها من الألم والفقر.. وفرضت قواعدها وأسلوبها الفريد..
شابة قادرة على استنباط “كلمات سر” ما بين سطور الأحداث..
تحترم معاني الحروف وقيم الفواصل والنقاط.. فتدوّر الزوايا بخبرة وإتقان..
صحافية تنير بقلمها على البعض.. وتدفع الآخرين لمراجعة أنفسهم..

إنّها الزميلة فاطمة عبد الله التي أمتعتنا بحوار عن ملعبها في عالم الإعلام..

***************

حاورتها رئيسة التحرير: إيمان أبو نكد

• بين العمل في دار صحافية لبنانية عريقة “النهار”، ودار أخرى عريقة ولكن عربياً، “الشرق الأوسط”، أين يبدو لكِ هامش الحرية والرأي أوسع؟
في الحياة، كما المؤسسات، ثمة هوامش للحرية وأخرى للضوابط. في “الشرق الأوسط”، أسوةً بـ”النهار”، أتنقّل وفق هامش حرّية لائق. الصحافي الجيّد هو الذي يتعامل بانتباه مع المحظور أينما كان. الخبرة الصحافية تُتيح تنبّهي جيداً لما هو غير مسموح به، فأتفاداه من تلقائي، أو أدوّر زواياه بما يتناسب مع رأيي وسياسة المؤسّسة. الحرّيات على مستوى الكتابة في الفنون والثقافة والترفيه، وهذا مجالي وملعبي، مُتاحة ومُريحة في المكانين.

• بعد سنوات من الخبرة وصناعة إسم لامع، هل تفرض فاطمة عبدالله قواعدها وأسلوب عملها، خلال الانتقال من مؤسسة إلى أخرى، أم تلتزم بالخطوط العريضة للمؤسّسة وتحترم قيودها؟
التزامي بالخطوط العريضة للمؤسّسة أعتبره مهارة صحافية وقدرة على المرونة والتكيُّف. أحترم سقف المكان الذي يحتضن قلمي لأنّه في النهاية خياري، وهذا يتماشى مع قيمي وأخلاقي المهنية ورؤيتي للأمور. المهم ألا يأتي مَن يُرغم صحافياً على تبنّي أو كتابة ما لا يقتنع به. هذا لم يحصل في “النهار” أو “الشرق الأوسط” من حُسن حظي، ففي المؤسّستين أشعر بتماهي قناعاتي وقيمي ومسار قلمي وأسلوب عملي مع الخطوط العريضة، وحين يصبح الصحافي بعضاً من مؤسّسته، يشعر بأنّه فرض أسلوبه. عند هذا المستوى من الانسجام، لا تعود “القيود” تتّخذ معناها المتسلِّط أو الآمر، بل تتراجع بهذا المفهوم المُتشدِّد، لتصبح مسألة يمكن التكيُّف معها تلقائياً ومن دون مجهود.

• حين تكتب فاطمة عبدالله عن أي حدث أو عمل، هل تُرضي نفسها وقناعاتها، أم تلبّي وتراعي ما يطلبه الجمهور أو أقلّه الجو العام والترند السائد؟
سأكون صريحة، لو عاد الأمر إلى شغفي وخياراتي، لكتبتُ عن الفن التشكيلي والشِعر والأدب والرواية والقصيدة والسينما، وكل جماليات عالم الثقافة. طبيعة العمل تفرض أحياناً الغوص في مجالات أخرى. لا يعني ذلك أنني مُرغمة على الكتابة الدرامية وسواها، ومحاورة فنانين وممثلين، بالعكس، فأنا أحبّ ما أفعله، وإلا لما استطعتُ الاستمرار. وما أريده قوله هو أنّ يوميات العمل وطبيعته قد يفرضان تغيير وُجهة القلم، مع إصراري على الكتابة بأسلوبي، وهذا جزء من التعويض عمّا لا أتفرّغ تماماً لكتابته.
أما إنْ كان في ذلك إرضاء للسائد، فربما هو ليس إرضاءً بقدر كونه تكيّفاً، لأن الزمن تغيّر، ويفرض مواضيعه ومقارباته و”ترنداته”، والأذكى في هذه الحالة، هو خلق التوازن، وبإمكاني الكتابة في المكانَيْن اللذين صنعاني: الثقافة والترفيه. المهم هو الأسلوب، وهذا ما أرفض المساومة عليه.

• كيف تقيّم صحافية مخضرمة وضع الإعلام والصحافة في لبنان، لاسيما مع تفشّي ظاهرة نقّاد وصحافيي مواقع التواصل، وتحوّل النقد الفني إلى مهنة من لا مهنة له عبر الحسابات الإلكترونية مجهولة المصدر؟
في لبنان والعالم عموماً، أشياء ومفاهيم كثيرة تُصاب بالتردّي. وهذا ليس حكراً على النقد أو الصحافة. وبما أنّهما مجالي فسأتكلم عنهما. في المهنة أسماء لها حضورها وكلمتها، وإنْ حظيتْ، أو لم تحظَ بإجماع. بالنسبة إليّ، أؤدّي عملي ولا أراقب سوى نفسي، فهي فقط مَن أضعها في مواجهة مستمرة مع أهدافها والحفاظ على قيمها. أعلم أنّ الحياة ليست وجهة نظر ثابتة، ولا يمكن وضع سكة واحدة ليسير عليها الجميع، فما هو برأيي “خطأ”، يصبح عند آخرين “صواباً”، ويجوز العكس، وعليَّ بنفسي وما أقدّم للمهنة. في النهاية، الحبر والقلم والضمير والأمانة مثل الشمس، يستحيل أنْ يُحجب نورها مهما عمَّت الظلمة.

• الصحافة الورقية إلى أي مدى قادرة على الاستمرار في ظل اندثار القرّاء والهجمة الإلكترونية، وتحوّل الجوّال إلى صحيفة قائمة بذاتها؟
في “الشرق الأوسط”، نهضنا بالصحافة الورقية تزامناً مع تعزيز المحتوى الرقمي، وفي “النهار” حدث هذا أيضاً. هذه التجربة المُلهِمة تأكيد على أنّ عُمر الورق لم ينتهِ بعد. رغم أنه لا مجال للعيش خارج الزمن، وهذا زمن “الرقمي” وعصر الأجهزة الذكية، والتكيُّف ذكاء إنساني لا بدّ منه، إنما المهم أيضاً رصانة المحتوى ومكانته. الورقي أو الإلكتروني، مجرّد وسيط، ولن يعود قيّماً استمرار الصحف الورقية بالصدور فقط لأنها ورقية، فيما المحتوى مُعرَّض للهشاشة والقصور. وتجربة “الشرق الأوسط” تجمع المجدين: الورق بهيبته والمحتوى الرصين بأسلوب عصري.

• من البدايات، كيف كان الاتجاه إلى الصحافة الفنية وليس السياسية أو الاقتصادية وسواها، مع لمحة عن فاطمة عبدالله.
أمقتُ كل ما يُفرّق. الفن يجمع ويُعوّض ويُبلسم ويمنح العزاء، لذلك وجدتُني أسلّمه قلمي. فاطمة عبدالله صحافية بدأت “من لا شيء تقريباً”، فقط من الحلم. صنعتُ نفسي بنفسي، بقراءاتي، باستعدادي لتوسيع الآفاق، بخروجي على السرب، ورغبتي في المعرفة اللامحدودة. منذ صغري وأنا أقرأ، ولطالما استعرتُ كُتباً من الجامعة لعدم امتلاكي ثمن كتاب. كُنتُ لا أزال تلميذة حين بدأتُ بإعطاء تلامذة الحي دروساً خصوصية لتأمين قسطي الجامعي.
فاطمة عبدالله إبنة الشقاء والعزيمة. نلتُ الأشياء بجهد، وبعدما استحققتها، بذاكرة طافحة بالمرارات، ومبللة بإرادة التعلُّم والوصول، أصبحتُ ما أنا عليه. أتطلّع إلى نفسي وأبتسم. مَن خاضت المسارات الوعرة، آتية من مدرسة رسمية، وبيئة لا تُشكّل الاحتضان الفعلي للطموح، لا تزال تتوق إلى المزيد من الشغف والحماسة والاندفاع والأهداف والتحدّيات.

• رغم أنّ الحوار أساسه الواقع الإعلامي اللبناني والعربي، ولكن لا يمكن في ظل الموسم الرمضاني، ألا نستقرئ رأي فاطمة عبدالله ككاتبة ومشاهدة حول واقع الدراما اللبنانية والعربية المشتركة والعربية عموماً.
الإجابة تطول، ولاختصارها أقول إنّ الموسم ببعضه جيد وبعضه الآخر أقل جودة، وصولاً إلى الباهت. عموماً، هذه تقييمات تُفيد أكثر مع مزيد من تبلور المشهد، فأعمال كثيرة تبدو واعدة، ويتبيّن مع توالي الحلقات أنّها أقرب إلى الخواء، وقد يحدث العكس أيضاً. يمكن الحديث بثقة عن مسلسلات تفرض حضورها، وأخرى مرتبكة، وهذا ما أورده تباعاً في مقالاتي النقدية بصحيفة “الشرق الأوسط”.

• استكمالاً للسؤال السابق، منذ اندلاع الأزمات العربية، عادت الدراما العربية المشتركة للانتشار، لاسيما اللبنانية السورية، وكان الإجحاف إلى حدٍّ ما بحق الطرف اللبناني بشكل عام، فما رأي ناقدة وكاتبة فنية بهذا الصراع القديم – الجديد؟
صحيح أنّ الدراما اللبنانية غائبة أو مُغيّبة، وهذا محزن، لكن يجدر الاعتراف أيضاً بجهود الممثلين اللبنانيين وفريق العمل اللبناني والإنتاج اللبناني والجغرافيا اللبنانية في صناعة المشهد. اللبنانيون حاضرون في المنافسة، وإنْ كان الحضور ليتّخذ مزيداً من الجمالية لو لم تغب أسماء مُنتَظرة لها مكانها، ونصوص محض لبنانية تحاكي أحوالنا وشؤوننا. النقاش طويل، وقد لا تُعلَم جميع خفاياه، لكنّ ما يُطمئن هو أنّ حضور لبنان لا غنى عنه، ومكانته دائماً محفوظة.

خاص Checklebanon
رئيسة التحرير: إيمان ابو نكد
مدير التحرير: مصطفى شريف

مقالات ذات صلة