نبيه برّي: “حاجة” كلّ الأطراف والمحاوِر الأول والدائم: هل لبنان بات على مشارف “الرئيس”!؟

كلمة السرّ هي “جلسات متتالية”. هذا يعني أنّ لبنان بات على مشارف “الرئيس”.

فقبل ساعات من كلمته السنوية، لم يكن المقرّبون من رئيس مجلس النواب نبيه برّي في أجواء المواقف السياسية التي سيطلقها. توقّعوا أن يدعو إلى الحوار كعادته، وهو عرّابه منذ اتفاق الطائف، وأن يخرج أرنباً جديداً من قبّعته السياسية السحرية، وأن يقترب خطوةً من صيغة حلّ وسطيّ، لكن ليس إلى حدّ التعهّد بجلسات متتالية.

فاجأ برّي بطرحه الخصومَ قبل الحلفاء، والحضورَ طبعاً، كما فاجأهم بإطلالته مباشرة من دون إجراءات أمنيّة وقائية أو احتياطات أو زجاج مضادّ للرصاص. كأنّه أراد القول إنّه أقرب من أيّ وقت إلى جمهوره، وإلى اللبنانيين، وأن لا أحد له مصلحة في أذيّة المنشّط التاريخي للحوارات بين اللبنانيين، الذي يتحوّل دوماً إلى “حاجة” كلّ الأطراف، حين يبدو أنّ البلاد سلكت طريق المهوار.

مخارج الطوارئ..
يتقن رئيس حركة أمل ذاك الحدّ الفاصل بين موقعه رئيساً للسلطة التشريعية، وكونه رئيساً لحركة أمل. “يفهم” على جمهوره فيحيطه اهتماماً. ويعلم كيف يواسي صغيرهم والكبير منهم. يتواعد وإيّاهم في ذكرى مغيَّب طال انتظاره “وما بدّلوا في حبّه وعشقه تبديلاً”، على ما يقولون ويردّدون ويهتفون.

ربّما كلّ إطلالات برّي في كفّة وإطلالته في ذكرى الإمام موسى الصدر قبل أيّام في كفّة أخرى. فقد تعوّد برّي وعوّد جمهور “أمل” أن تكون هذه المحطّة “بياناً سياسياً رؤيوياً يملأ الفراغ السياسي التنظيمي والنيابي”.

يوزّع في هذه المحطّة الرسائل إلى الداخل والخارج، الحليف والخصم. يصفّي الحسابات ويعطي لكلّ ذي حقّ حقّه في السياسة. ثمّ يمدّ يده إلى الحوار، فيرسل أذرعته السياسية إلى هذا وذاك معتمداً على أنّ البيوتات المسيحية السياسية “التقليدية” قادرة على ضبط التفلّت الطائفي اللاعقلاني. بات هذا واضحاً في نشرات محطّة “NBN” الناطقة باسمه من خلال فتح الهواء لضيوف غير تقليديين، ولم نرهم من قبل. فاستقبلت شاشة أمل الرئيس أمين الجميّل، وفارس سعيد… وغيرهما.

بدا برّي كأنّه يفتح مساراً يعيد فيه الاعتبار إلى البيوتات المسيحية علّه يعوّض جموح الأحزاب المتشدّدة. وهو أحد “بناة” هذا النظام، منذ السبعينات والثمانينات وصولاً إلى الطائف وما بعده. ويعرف “مفاتيحه” ومداخله ومخارجه. وحتّى مخارج الطوارىء، هو الذي بنى الكثير منها، في لحظات التطرّف الشديد. فكان يوارب الأبواب، ويفتح النوافذ لمن يريد أن يطلّ على مآسي الماضي، أو احتمالات المستقبل.

ولأنّه يعرف أنّ العهد السابق كان له ايد الطولى في الخراب الذي نحن فيه، أطلق طلقات تحذيرية على التيار الوطني الحرّ برئيسَيْه، الفخري والفعليّ من بوّابة ملفّ النفط “والذين يحاولون تشويه هذا النصر بزعمهم أنّهم هم الذين أنجزوه (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم)، سكتنا طويلاً حتى صدّقوا أنفسهم”.

الجريمة التاريخية… وحرب 2006
قبل عام اقترف برّي “جريمته” التاريخية، بأن دعا الكتل النيابية إلى إنجاز توافق وطني يفضي إلى انتخاب رئيس للجمهورية يجمع ولا يفرّق. عامٌ من التعطيل والإخفاقات عاد بعده برّي ليسأل: “وهل لبنان إلّا الكلمة والحوار؟ وفي البدء كانت الكلمة؟ هل ممنوع على مكوّن سياسي وروحي مؤسّس للكيان اللبناني أن يكون له صوت ورأي في مواصفات رئيس جمهورية بلاده؟”.

للحوار مع برّي حكاية قديمة بدأت في الثاني من آذار عام 2006 على أثر زيارة وفد من حركة أمل والحزب ومعهما مصطفى ناصر للرياض من أجل التفاوض مع الرئيس سعد الحريري على استئناف عمل الحكومة وملف المقاومة. لم يرُق الأمر للفرنسيين فنسفوا الاتفاق. وفي بيروت زار النائب محمد رعد الرئيس فؤاد السنيورة الذي قال له: “لن أقبل باتفاق قاهرة جديد”. سمّى وليد جنبلاط سلاح الحزب حينذاك “سلاح الغدر”، ورفض سمير جعجع ومعه كُثر صيغة “جيش وشعب ومقاومة”. ولاستئناف عمل الحكومة تفاهموا على موضوع الاستراتيجية الدفاعية، فدعا برّي إلى حوار بدأ في الثاني من آذار 2006، وانتهى في 29 حزيران 2006 عشيّة حرب تموز.

قبل اعتصام الثامن من آذار حول السراي الحكومة، ومحاصرة السنيورة وحكومته، دعا برّي إلى حوار، فلم تلقَ دعوته تجاوباً، ثمّ كرّرها، فاشترط الفريق الآخر رعاية الجامعة العربية، فعقد رئيس الجامعة عمرو موسى اجتماعات ثنائية للمسؤولين. لكن استمرّ الوضع على حاله إلى تاريخ السابع من أيار 2008 وما شهده من اجتياح عسكري لبيروت والجبل نسف كلّ حوار. وانتقل الجميع بعده إلى الدوحة حيث أقرّ مبدأ الحوار، فصار برئاسة رئيس الجمهورية ميشال سليمان. وقبل انتخاب الجنرال ميشال عون دعا برّي إلى حوار حول “سلّة” الحكم والعهد المقبل، فرفض عون ملاقاته.

مبادرة “مفخّخة” بالوسطية
لم يمنعه فشله أحياناً في إدارة جلسات الحوار من تكرار الدعوة والإصرار على أنّ الحوار مهمّ ولو كان للحوار نفسه، حيث يكفي أن يجتمع اللبنانيون ويتبادلون الأجواء الإيجابية.

في ذكرى غياب المؤسّس الإمام الصدر، خرج رئيس حركة “أمل” عن صمته، وأطلق مبادرة رئاسية عنوانها الحوار قائلاً: “تعالوا إلى حوار في شهر أيلول لمدّة أقصاها سبعة أيام، والذهاب بعدها إلى عقد جلسات مفتوحة ومتتالية إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً ونحتفل بانتخاب رئيس للجمهورية”.

تنطلق هذه الدعوة من اعتبارين اثنين:
– الأوّل مرتبط بوضعيّته كرئيس قارئ بجدارة للمعطيات المحلية والإقليمية والدولية، والتموضعات التي تشهدها الساحة، بدءاً من الموقف الفرنسي الثابت على الدعوة إلى حوار من أجل الاتفاق على رئيس، إلى زيارة الموفد الأميركي آموس هوكستين الذي بحث الموضوع الرئاسي وطلب برّي مساعدته مع حلفاء أميركا لإتمام الاستحقاق، إلى زيارة وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان العائد من لقاء جمعه مع وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان. الرئيس بري يريد بدعوته أن يواكب كلّ هذا الحراك لعلّه يخرج بالنتائج المرجوّة.

– الثاني يتّصل بإصراره على صدّ الضغوط عليه من الداخل والخارج وإنكار تهمة تعطيل المجلس ورمي الكرة في ملعب الأحزاب المسيحية والمعارضة لتكون قطبته المخفيّة بعد الدعوة إلى الحوار التعهّد بعقد جلسات متتالية لانتخاب الرئيس وليس جلسة متواصلة، أي جلسة بعد جلسة ولو من دون نصاب وهكذا دواليك، مبرّئاً بذلك ساحته تجاه المجتمع الدولي وتجاه البطريركية المارونية والمعارضة وسط أخبار متداولة عن عقوبات أميركية يُحتمل إنزالها بحقّه.

ليس معلوماً ما الذي توافر للرئيس برّي من معطيات جعلته على ثقة بأنّ انتخاب الرئيس يمكن أن يكون وشيكاً إلى الحدّ الذي قاله رئيس حركة أمل.

حوار بلا إدارة
كرّس برّي دوره كرسول للحوار والمتبنّين له ولو خلت دعوته من تفاصيل عن رئاسة الحوار وإدارته. اللافت أنّ برّي الذي سبق أن أبلغ الموفد الفرنسي جان إيف لودريان أنّه بات طرفاً في تبنّي ترشيح رئيس المردة سليمان فرنجية، وهو ما يزيل عنه صفة الراعي للحوار ورئيسه، عاد يمارس دور الداعي إلى الحوار من دون أن تفوته العودة إلى الماضي للتذكير بالموضوع الرئاسي: “عملنا من أجل إنجازه قبل حصول الشغور، ونؤكّد اليوم أنّه كان يجب أن يُنجز بالأمس قبل اليوم وغداً قبل ما بعده وقبل أيّ أوان وقبل فوات الأوان”.

برّي يتحدّى العقوبات
في إشارة منه واضحة إلى ما يُعمل في سياق سعي البعض إلى فرض عقوبات عليه لم يفوّت برّي الغمز من قناة فريق المعارضة ومن يعمل على غزل التقارير بحقّه واتّهامه بالتعطيل، وتحديداً فريق “الوشاة” الذي يسيّر خطوط “ترانزيت” جوّية “عابرة للقارّات باتجاه عواصم القرار في أوروبا وأميركا ويشكّل مجموعات ضغط في أكثر من عاصمة تحريضاً وتشويهاً”، مسدياً لهم نصيحة بأن يدّخروا “أموال الترانزيت والأكلاف على الإقامة في الفنادق الفاخرة وعلى شراء الذمم في مراكز النفوذ في تلك العواصم، إنتو غلطانين بالنمرة وخيطوا بغير هالمسلّة”.

التيّار وتهمة التعطيل
جمع المعارضة مع التيّار ووضعهما في موضع التعطيل ليقول لهم إنّ “هذا الاستحقاق لا يتمّ بفرض مرشّح، أو بوضع فيتوهات على مرشّح”، منبّهاً إلى أنّ “الاستحقاق الرئاسي لا ينجَز ولا يتمّ بتعطيل عمل المؤسّسات الدستورية وشلّ أدوارها، ولا يكون بشلّ عمل السلطة التشريعية التي لها الحقّ أن تشرّع في كلّ الأحوال، وهي ضرورة قصوى. هل كان على رئيس المجلس أن يدرج على جدول أعمال آخر جلسة قانون تشريع الشذوذ كي يكتمل عقد الجلسة؟”.

الآن بعد زيارة هوكستين وعبد اللهيان ونفي كلّ منهما أنّ ما يحصل في لبنان منسّق دولياً، وبالتالي إقليمياً، ينتظر اللبنانيون المخرج من الأزمة والانهيار، والرئيس برّي يبدو أنّه يخرج أرنبه التاريخية، والأخير: الحوار الآن… والجلسات المتتالية.

منى الحسن- اساس

مقالات ذات صلة