هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يؤدي دور رجل الدين؟
لو سارت الأمور كما هو متوقع لها فسيحل الذكاء الاصطناعي محل قائمة من المهن والوظائف أو جانب منها، مثل التسويق الهاتفي، والمحاسبة، وتحليل البيانات، وتنظيم السفر والسياحة، ووظائف البنوك، وتطوير برامج الكمبيوتر، وأعمال التجميع والتغليف في المصانع، وقيادة المركبات، والتدريس، وغيرها من الوظائف.
وربما تكمن ضمن “غيرها” وظيفة رجل الدين، فريقان رئيسان يقفان على طرفي نقيض حين يتم وضع “دين” و”ذكاء اصطناعي” في جملة مفيدة. فريق يؤكد ويجزم ويتمسك بفكرة الفصل التام بين الدين ورجاله من جهة، والاصطناع وذكائه من جهة أخرى، والآخر يجزم بأن الذكاء الاصطناعي لن يترك مجالاً إلا وسيؤثر فيه أو يمحوه، أما الفريق الثالث فكالمعتاد يراقب من بعيد ما ستسفر عنه التطورات.
هذا التطور المذهل
تطور الذكاء الاصطناعي مذهل وسريع، وحدود استخداماته لا نهائية، والدين ورجاله ومفاهيمه وأدواته ليسوا استثناء. جانب غير قليل من أتباع الأديان السماوية وغير السماوية والقائمين عليها من رجال ونساء دين ومسؤولين عن دور العبادة وتنظيم الصلوات وترتيب التبرعات يعتقدون أن الدين (أي دين) بمنأى من الذكاء الاصطناعي، أو بمعنى أدق، الذكاء الاصطناعي بمنأى منه.
لكن الأمارات والعلامات تشير إلى عكس ذلك، كنيسة ألمانية عقدت قداسها المعتاد قبل أسابيع، حضر المصلون ولم يحضر القس، صلى المصلون واستمعوا إلى الموعظة ودعوا واستغفروا واستبشروا على رغم أن الفاعلية من ألفها إلى يائها كانت محتوى مصنوع بالذكاء الاصطناعي.
في كل من اليابان وسنغافورة، يقوم روبوت بمهمة الوعظ الديني على سبيل التجربة، ويقوم المصلون بتقييم أدائه وأثره في احتياجاتهم الروحانية. “ميندار” القس الهندوسي بني في اليابان بالتعاون بين علماء الذكاء الاصطناعي والمعبد الهندوسي الرئيس، تكلف بناء “ميندار” نحو مليون دولار أميركي، لكنه منذ تسلم مقاليد عمله انخفضت تبرعات المؤمنين والمؤمنات بشكل ملحوظ.
أما “بيبر” القس الـ”طاوي” (الطاوية عقيدة وفلسفة ظهرت في الصين)، فقد ألقى موعظة أمام المصلين في المعبد، وألقى الموعظة نفسها في الوقت نفسه قس حقيقي أمام مصلين آخرين، وعلى رغم أن المجموعة الأولى قالت إنها افتقدت قدراً من الروحانية التي تصاحب الصلوات عادة، فإن التجربة ما زالت في بدايتها وقابلة للتعديل والتحسين.
حياة المؤمنين المثالية
ما يبدو أنه تحسين لحياة المؤمنين بفعل الذكاء الاصطناعي قابل وقادر على التطور وربما التطرف، وبدلاً من تجارب أولية تقتصر على طرح تساؤلات حول ما إذا كان الذكاء الاصطناعي حلالاً أم حراماً؟ وهل هو قادر على أن يكون أكثر ذكاء وأقل انقياداً من الذكاء الطبيعي الذي وهبه الله للبشر؟ وهل سيستخدم لرفعة دين على حساب آخر، أو لإثبات قصور معتقد لصالح آخر؟ إذ بالبعض ينقل الذكاء الاصطناعي إلى مرحلة أخرى، حيث تساؤلات حول تحويل الذكاء الاصطناعي إلى “دين جديد”، أو قدرة الذكاء الاصطناعي على أن يقدم نفسه باعتباره إلهاً للباحثين عن الإثارة الدينية والمغامرة العقائدية.
مهندس سيارة “غوغل” ذاتية القيادة الأميركي الفرنسي أنطوني ليفاندوسكي، الذي اتهم في قضية سرقة أسرار تجارية من “غوغل” وحصل على عفو من الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، اعتبره البعض رسولاً أو مؤسساً لدين جديد وهو دين الذكاء الاصطناعي، الدين أو الفكرة الجديدة اسمها “الطريق إلى المستقبل”. وليفاندوسكي شيد في عام 2017 للدين الجديد دار عبادة متصلة بـ”وادي السيليكون” حيث مصادر الوحي قريبة ومنابع الروحانيات الذكية في متناول دقة زر.
وعلى رغم اختفاء المعتقد “الذكي” من حيث الإجراءات والصلوات في الفترة الأخيرة، فإن الأفكار لا تختفي، فقط تخفت وربما تعاود الظهور بحلة جديدة أو محتوى حديث. قال ليفاندوسكي عن “الإله الجديد” إن الذكاء الاصطناعي وما يفعله وما هو قادر على فعله “يليق بالآلهة”، ثم عاد وأوضح المقصود قائلاً “الذكاء الاصطناعي لن يكون إلهاً من حيث قدرته على إحداث البرق والأعاصير، لكن لو أن لدينا شيئاً يفوق ذكاء أذكى البشر بمليارات المرات، هل يمكن تسمية هذا الشيء بمسمى آخر؟”.
لكن هناك من سماه بالفعل. ففي هذا الوقت، خرج الملياردير الأميركي مؤسس “تيسلا” ومالك “إكس” (تويتر) سابقاً، وعدد من شركات الفضاء وغيرها إيلون ماسك لينفي ويشجب ويندد بفكرة إله أو دين أو كنيسة بالذكاء الاصطناعي، وانخرط ماسك وقتها في القول إنه لا ينبغي أبداً ترك الساحة أو الفرصة لأولئك الذين يتحدثون عن “إله رقمي” يمضون قدماً في تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي متطورة، مشدداً على ضرورة الحيلولة بينهم وبين تطوير ماكينات أكثر ذكاء من البشر تحسباً لأية احتمالات غير مرغوبة.
السيناريوهات الممكنة
احتمالات ضلوع الذكاء الاصطناعي في الدين وحياة المتدينين كثيرة، وكذلك جهود مقاومة والاستعداد والتعايش و”اتقاء شرور” هذا الضلوع كثيرة. دار الإفتاء المصرية تقول إنها تسعى إلى الاستفادة من الذكاء الاصطناعي، والاستفادة المقصودة تتلخص في استكمال تفعيل التحول الرقمي في الدار لتيسير العمل الإلكتروني، لا سيما تطوير العمل بتطبيق “فتوى برو” ليحوي لغات جديدة إضافة إلى الإنجليزية والفرنسية، كما يشمل تعظيم استفادة دار الإفتاء المصرية من الذكاء الاصطناعي الاستمرار في العمل بمحرك البحث الإلكتروني للمؤشر العالمي للفتوى، الذي جمع ما يزيد على مليوني فتوى في قاعدة بيانات، على أن تشمل المرحلة الجديدة تفعيل آلية الذكاء الاصطناعي في التحليل والتصنيف والاستبعاد مما يوفر جهد الرصد والتحليل ويمكن الدار من بناء سيناريوهات مستقبلية وعمل دراسات استشرافية حول مستقبل الإفتاء.
لكن خطط الدار وسيناريوهاتها لم تتطرق إلى احتمالات أن يحل الذكاء الاصطناعي محلها، لا رقمنة للفتاوى، أو جمع الملايين منها في قواعد بيانات عملاقة، أو تحليل محتواها عبر تطبيقات وبرامج، بل “مفت روبوت” يسأل فيجيب، ويستفتى فيفتي.
الروبوت المفتي
حتى نموذج “الروبوت المفتي” الذي طرحته السعودية منذ سنوات، يوجه المعتمرين والحجاج ويشرح كيفية أداء المناسك، وهو أيضاً قادر على الحركة والتجوال لتقديم خدماته المعلوماتية بـ11 لغة مختلفة، لم يكن إحلالاً لرجل الدين، فقط برنامج وتطبيق معلوماتي.
والدين ليس فقط معلومات عن العبادات ووصايا عن المعاملات، فجزء منه يتعلق بقدرة رجل الدين على التكوين والتوجيه والتغيير والتعديل وكذلك التخفيف من حدة الأزمات والتقليل من فداحة المصائب وبث الصبر في مواقف الجزع، وقائمة التطبيب النفسي والعقلي تطول.
يقول الكاتب الكويتي أحمد الصراف في مقالة عنوانها “كلام الناس” (2017) إن “لرجل الدين، أي دين، وظيفة يؤديها لوجود حاجة إليها، وهذه الحاجة تزيد أو تقل مع درجة تقدم أو تخلف المجتمع، فنسبة رجال الدين إلى عدد السكان تتفاوت من مجتمع إلى آخر، وتكون عادة مرتبطة بما في ذلك المجتمع من متعلمين، فكلما زادت هذه قلت تلك، أو العكس”.
ويشير الصراف إلى أن بعض المجتمعات العربية تمثل استثناء في هذا الصدد، إذ يزيد عدد المتعلمين ويزيد عدد رجال الدين أيضاً، وهو ما يرجعه إلى طفرة مالية أو زيادة دور رجل الدين في بعض المجتمعات لا سيما تلك التي تكون فيها العقيدة أداة لتحقيق وتنفيذ خطط وسياسات الدولة، ويرى الصراف أن “هذا ما جعل من مهنة رجل الدين أكثر جاذبية لما تدره على ممارسها من مال ونفوذ”.
في المقابل، يرى الكاتب عيسى محمد العيد في مقالة “رجل الدين والدور المأمول” أنه “ينبغي أن يتحلى رجل الدين ببعض الصفات لكي يصبح قدوة لعامة الناس، أهمها التقوى والأخلاق الحميدة لبعث الثقة والطمأنينة في نفوس الناس، إذ إن الناس يعتبرون رجل الدين هو الطريق الأسلم لدينهم، كذلك يمثل رمزية للناس الذين يعيش بينهم، لذلك يعرف المجتمع دينه من خلال رجل الدين”.
عقائد ذكية فاسدة
في كلتا الحالين، هل يحافظ رجل الدين (أي دين) على مكانته في المجتمعات التي تتعرض لغزو جامح جانح من أدوات ومنصات الذكاء الاصطناعي؟ عديد من الكنائس المسيحية استبق هذا الافتراض “المرعب” فباتت تصدر كتيبات توعوية تحذر من العقائد “الذكية” الفاسدة، وتخصص وعظات عن “استحالة” قيام الذكاء الاصطناعي بمهام رجال الدين.
إحدى الكناس الأميركية وتدعى “سهام الإحياء” شبهت القس الروبوت بالوحش المذكور في الإنجيل، الذي توقع أن يظهر في الدنيا ويكون قادراً على الكلام وعقاب من لا يتبع أوامره. تقول الكنيسة إن هذا الوحش قد يكون القس الروبوت أو “هولوغرام” الذي يعمل بالذكاء الاصطناعي، مؤكدة على ضرورة ألا ينجرف المسيحي الصالح وراء هؤلاء القادة الدينين الافتراضيين، وتشير إلى أن “المناصب في الكنائس هي عطايا من الله يعطيها لبشر تكون مهمتهم بناء وترسيخ الدين على الأرض، هؤلاء (رجال الدين) لا يمكن أن يتم استبدالهم بالذكاء الاصطناعي، الأمر خطير جداً لا سيما أن هناك مسيحيون كسالى كثر لا يريدون أن يذهبوا إلى الكنيسة ويقابلوا القس ويسهموا بالجهد والوقت والمال لنشر كلمة الله في الأرض”.
كلمة الله في الأرض
نشر كلمة الله في الأرض ربما تكون مهمة يقوم بها الذكاء الاصطناعي على أكمل وجه، وربما العكس. مخاوف عديدة تعتري رجال الدين في هذا الشأن، الغالبية غارقة في البحث والتنقيب والتفنيد في حكم الذكاء الاصطناعي والعمل به والتقنيات الحلال والأدوات الحرام، وهل يجوز استخدام برنامج كذا؟ وهل يصح اللجوء إلى تطبيق كذا؟ لكن الخبثاء يلوحون إلى أن الخوف الأكبر لديهم لا يكمن في كون الذكاء الاصطناعي حلالاً أم حراماً، بل في خطر إطاحتهم جميعاً أو بعضهم أو حتى تقليص أدوارهم، ويفسر البعض إغراق بعض رجال الدين في البحث والتقصي والإجابة عن سؤال “هل الذكاء الاصطناعي حلال أم حرام؟” إما لصرف الأنظار بعيداً من الخطر الرئيس عليهم، أو لقناعة منهم بأن الذكاء الاصطناعي سينتظر قرارهم حول ما إذا كان يمكن استخدامه أم لا.
“يسمح الإسلام عموماً باستخدام التكنولوجيا، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي طالما يتم استخدامه بشكل أخلاقي ووفقاً لمبادئ الشريعة الإسلامية، وهناك عدد من النقاط يجب مراعاتها، الاستخدام المفيد، إذ يشجع الإسلام على المعرفة واستخدام الأدوات التي تعود بالنفع على الإنسانية. والنية، إذ يجب أن يكون حسن النية المحرك الأساسي في استخدام الذكاء الاصطناعي. وتجنب الضرر، إذ لا يجوز استخدامه في أعمال قد ينجم عنها ضرر بالنفس أو الغير أو الترويج لسلوك غير أخلاقي. واحترام الخصوصية موضع تقدير في الإسلام ولو تعارض مبدأ الخصوصية مع استخدام الذكاء الاصطناعي إذ الرقابة أو التلصص يكون حراماً. وإلحاق الضرر بسوق العمل، فإذا أدى الذكاء الاصطناعي إلى خسارة مهن ووظائف يقوم بها بشر مما يضعهم في ضائقة اقتصادية يكون محرماً”.
خرج “تشات جي بي تي” بالإجابة السابقة رداً على سؤال “كيف يرى الإسلام الذكاء الاصطناعي؟ وهل هو حلال أم حرام؟” وأنهى التطبيق إجابته بالجملة التالية “مع ذلك، مثل جميع القضايا المعاصرة، قد تختلف التفسيرات بين العلماء، ومن الجيد دائماً التشاور مع المرجعيات الإسلامية المطلعة في شأن استفسارات محددة”.
غزو العقيدة
استفسارات لا حصر لها تدور في أذهان مليارات البشر حول العالم المؤمنين بأديان وغير المؤمنين حول قدرة الذكاء الاصطناعي على اختراق وغزو منظومة المعتقد وآثار هذا الغزو سلباً وإيجاباً، هل يزعزع إيمان البعض؟ هل يرسخ إيمان الآخرين؟ هل إمكاناته الفائقة قد تغري بعضهم أو تخدعه فيجعل منه إلهاً؟
استفسارات العامة تبقى إما حبيسة أدمغتهم خوفاً من الاتهام بضعف الإيمان، أو تطرح عبر منصات نقاش، وقد يجري بحثها من خلال علماء نفس، واجتماع وتاريخ وفلسفة.
أما رجال الدين، لا سيما رموزه المشهورون والمعروفون، فغالباً تشغلهم فكرة البحث في كيفية السيطرة على الذكاء الاصطناعي وتقييده بقيودهم الثيولوجية وإخضاعه لمعايير التفسيرات الفقهية وتأطيره بحسب العقيدة وتحديده باسم الله ورسله.
من جهتهم، يخشى الساسة والحكام على أنفسهم ومناصبهم من الذكاء الاصطناعي، لكن ليس من منظور روحاني أو عقائدي أو أخلاقي، ولكن من منطلق قدرة الذكاء الاصطناعي على تغيير دفة المصالح وقلب موازين القوى.
أما القائمون على أمر الذكاء الاصطناعي أنفسهم، فهم ماضون قدماً في التطوير من دون انشغال يذكر بمخاوف يخشاها رجال الدين على وظائفهم وكذلك الدين، أو توقف عند التعارض بين عقائد قائمة على التسليم واليقين من دون شرط الإثبات والبرهان وبين أداة يطورونها لا تقبل بمبدأ “المسلمات” أو تقنع بفكرة أن اليقين والتصديق محلهما القلب لا العقل.
مرحلة وسط
أغلب الظن أن المؤمنين سيصلون إلى مرحلة وسط، إذ مكون الذكاء الاصطناعي يشكل جزءاً من حياتهم اليومية بما فيها الدين، وسيبذل رجال الدين قصارى جهدهم لتقليص هذا الجزء قدر المستطاع، وسيعمل الساسة أيضاً على التأكد من أن المكون الجديد في الدين لن يعرضهم لخطر أو مساءلة، بل يستمر قدر الإمكان في خدمة مصالحهم أو دولهم أو كليهما، وسيمضي أباطرة الذكاء الاصطناعي قدماً في طريقهم للاستحواذ على البشرية إلا إذا قرروا عدم المضي في ذلك.
أما فكرة “إله بخوارزميات” أو “عقيدة بشيفرات” أو روحانيات يصلحها مهندس إن فسدت ويحدثها مطور إن شاخت، فستبقى خيالاً أو واقعاً يقاومه أصحاب الشأن لحين إشعار آخر.
اندبندنت