“ترف” في التوقيت الخاطئ وفي الزمن الرّديء: هل خوض المعركة ضدّ “التّحجر الدّيني” ضروري ؟

لا يجانب الصواب من يعتبر أنّ “التنازع” الحاصل في لبنان حول مسائل الجندريّة عمومًا والمثليّة الجنسية خصوصًا، سواء كان بهدف فرض القمع السلطويّ والمجتمعيّ أو الذود عن الحريّات العامة والخاصة، هو “ترف” في التوقيت الخاطئ، إذ إنّ قائمة هموم اللبنانيّين، في ظلّ أكبر مأساة مالية واقتصادية لحقت بهم، لم تعد تتّسع لمواضيع جدليّة “جانبيّة” تُلهيهم عن الأساسيات التي تتقدمها هواجس توفير سلّة غذائيّة كريمة وإعادة بناء السلطة المنهارة تحت ضربات الفراغ الرئاسي.

وتقرّ شخصيات وقوى انشغلت في التصدّي لمحاولة وزير الثقافة محمد مرتضى إعطاء نفسه صلاحية منع عرض أفلام سينمائية (فيلم “باربي”)، بحجة المحافظة على ما سمّاه مندوبو القوى الدينيّة “زورًا” أخلاقيات الهويّة الوطنية، بـ”ثانويّة المعركة”، ولكنّهم يلفتون الانتباه إلى أنّهم اضطرّوا إلى خوضها لأنّ خوفهم، بعدما أعلن الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله قيادة هذه المعركة، قد تعاظم من أن تستغلّ “الطبقة الدينيّة المتحجّرة” انشغال اللبنانيّين المحق بمصيرهم، حتى تفرض قواعدها على الجميع وتوسم جبين لبنان بما لا يمكن أن تمحوه السنوات المقبلة.

وقد كان لافتًا للانتباه أنّ “التحالف” الذي أقامه “المتحجّرون”، في محاولاتهم الهادفة إلى إعادة رسم صورة لبنان، قد تخطى كل الانقسامات الطائفية والمذهبية والسياسيّة والحزبية والتسلطيّة والميليشياويّة، وليس أدلّ إلى ذلك سوى دخول “جنود الرب”، وهو تجمّع “تسلبطي” مسيحي سبق أن أخذ “مشروعيّته” من ادّعاء الدفاع عن “المجتمع المسيحي” من سلاح “حزب الله”، في صلب هذه المعركة، فصادر صلاحيات الأجهزة الأمنية اللبنانية الرسمية، من أجل فرض إقفال ملهى ليلي في منطقة مار مخايل السياحيّة، بحجة أنّه “ملتقى المثليين”.

وكان لافتًا للانتباه أنّ تجمّع “جنود الرب”، وبعدما كان، في أوقات سابقة محور إدانة تولّتها قوى “محور الممانعة”، أصبح فجأة “مرضياً عنه” هنا و”مباركًا” هناك!

ويعتبر المدافعون عن احترام العلمانية في دولة لبنانيّة تراعي الطائفيّة أنّ الهجوم الحالي على المثليّين، وإذا سُمح له بأن يتكلّل بالنجاح أو أن يمر مرور الكرام، سوف ينتقل، في وقت لاحق، إلى قمع ما تسمّيه قوى التحجر الديني بالفسق والفجور، وهذا يعني أنّ المجتمع المدني سوف يدخل في حرب لاحقة مكلفة على كل المستويات، لأنّه سوف يجد نفسه ممنوعًا من المشاركة، فعلًا أو تذوّقًا، من كل الفنون “غير الملتزمة”، تمامًا كما هو حاصل في “الجمهوريّة الإسلامية في إيران”.

ويشتبه كثيرون في لبنان، بعد التدقيق في مواقف “حزب الله”، سواء المعلن منها أو “المستتر”، بأنّ هدف نقل الأسس الاجتماعية التي يقوم عليها “نظام الملالي” في إيران هو في مرتبة متقدمة على جدول أعمال هذا الحزب!

وأصبحت مخاطر تحقيق هذا الهدف مرتفعة جدًّا، إذ إنّ ما فرّقته المصالح السياسية جمعه التحجّر الديني الذي له أرضية صلبة في كل العائلات الروحيّة في لبنان، بما في ذلك الكاثوليكية منها التي يبدو أنّها تتمرّد، في عدد من الملفات، من بينها المثلية الجنسية والمهاجرون واللاجئون، على توجيهات الانفتاح غير المسبوقة التي يقودها بابا الفاتيكان فرنسيس.

وبناءً عليه، فإنّ القوى التي تتصدّى لمحاولة تسليم مصير اللبنانيّين إلى المتحجرين دينيًّا، لا تهدف إلى حماية مجموعة من هنا أو مجموعة من هناك، ودليلها إلى ذلك أنّ شخصيات مهمة ولها موقعها في السياسة والإعلام والاقتصاد والثقافة وينتمون إلى فئة المثليين جنسيًا، يقفون صامتين في المعركة الأخيرة، كما لو كان على رؤوسهم الطير، تاركين خوض المعركة بكل ما فيها من أثمان إلى الخائفين على المجتمع اللبناني من التحجر الديني، وغالبيتهم لا علاقة لها، من قريب أو من بعيد، بالمثلية الجنسية!

وهذا يعني أنّ المعركة التي اضطر كثيرون إلى خوضها هي معركة الدفاع عن الحريات الخاصة والعامة في المجتمع اللبناني، لأّنه متى خسرت “بلاد الأرز” طابعها التقليدي تفقد آخر مقوّمات الأمل بالمستقبل بعدما قضت قوى التحجر الديني على كل ما كانت قد تحكّمت به: السيادة، الاستقلال، الاقتصاد، و…الدولة!

فارس خشان- النهار العربي

مقالات ذات صلة