لبنان العالق بين “وهم فائض القوّة”.. و”وهن الرماديّة” عند الفريق الآخر المقابل!
“الاستحقاق الرئاسي في لبنان معلَّق بين حالتَي وهم القوّة الفائضة، والوهن الذي يتّسم به الفريق الآخرالمقابل”.
بهذه العبارة لخّص مصدر مقرّب من الجانب السعودي النظرة إلى الفرقاء اللبنانيين المعنيين بتسريع إنهاء الفراغ الرئاسي وفق بيان الدول الخمس السعودية، الولايات المتحدة الأميركية، فرنسا، مصر وقطر، في 17 تموز الماضي، الذي أعطى دفعاً لمهمّة الموفد الرئاسي جان إيف لودريان. لا تقتصر مسؤولية الانسداد السياسي في لبنان على موقف الحزب، في نظر الأوساط المطّلعة عن قرب على التقويم السعودي للمأزق الذي يتحكّم بمصير البلد، بل تتعدّاه إلى خليط المعارضة والمستقلّين والتغييريين، ومنهم كتلة النواب السُّنّة.
الرماديّة عبثيّة
في نظر هذه الأوساط أنّ “البقاء في المنطقة الرمادية أقرب إلى العبثية، وأن يبقى الفرقاء في وضعية انتظار أن تُرسَم لهم خياراتهم من الخارج، فهذا صار من الماضي وفصل مستحيل. ولذلك قالت المملكة إنّه لا موقف لديها من أيّ مرشّح. فحلّ مسألة اختيار الشخص يتوقّف على الفرقاء اللبنانيين، فيما هي تتعامل مع الرئيس المقبل وفقاً لممارساته، والجميع بات يعلم ذلك”.
تستعير هذه الأوساط عبارة منقولة من مذكّرات رئيس الحكومة الراحل تقيّ الدين الصلح “حارس الميثاق الوطني”، يتوقّف عندها مسؤولون سعوديون مهتمّون بلبنان، يقول فيها إنّ مسؤولية استقلال لبنان تقع على عاتق المسيحيين، وديمقراطيّته مسؤولية المسلمين. والآن هناك خلل في هذه المعادلة. فهناك خلل في استقلاله وفي ديمقراطيّته على الطائفتين السعي إلى معالجته.
مع أنّ الإشارة إلى “وهن المنطقة الرمادية” تستهدف القوى المعارضة لفريق “الممانعة”، لا تخلو قراءة هذه الأوساط لموقف الحزب من الاستحقاق الرئاسي من الإضاءة على ما تعتقده الحالة الواقعية التي تعتمل في داخله، وحاجته إلى تسوية على الرئاسة، على الرغم من إشارتها إلى براغماتيّته. ففي معرض سعيه إلى تكريس مكتسباته السياسية التي حقّقها “الحزب” في المرحلة الماضية، تلاحظ الأوساط نفسها الآتي:
الحزب مرهق
– هو “يتكبّد نتائج وآثار سلوكه السياسي في لبنان خلال العقد الماضي، ويحمّله الناس مسؤولية الانهيارات التي أصابت الاقتصاد والوضع المالي” بوصفه القوّة السياسية المهيمنة على القرار السياسي طوال المرحلة السابقة.
– الوضع الاقتصادي المنهار في إيران أرهق “الحزب” أيضاً. وما زاد في إرهاقه تدهور الوضع في سوريا، وانحياز إيران إلى روسيا في حرب أوكرانيا (تصاعدت العقوبات على طهران وعليه بعد اصطفاف الأخيرة إلى جانب روسيا).
– حادثة الشاحنة المحمّلة أسلحة التي انقلبت على كوع بلدة الكحّالة شكّلت صدمة لفريق “الحزب” و”الممانعة”، لأنّها أظهرت أنّ هناك شرخاً سياسياً كبيراً بين “الحزب” وبين العمق المسيحي المتأزّم أصلاً ويعاني جرّاء استمرار الفراغ الرئاسي.
ما بعد عين الحلوة ودور الأمن الاستباقيّ
لمناسبة الحديث عن انفجار الوضع الأمنيّ في مخيّم عين الحلوة للّاجئين الفلسطينيين، الذي اتُّهم “الحزب” وإيران بمحاولة الإفادة منه لإضعاف حركة “فتح” عبر التنظيمات الإسلامية المتطرّفة التي تستظلّ في النهاية حركة “حماس” ذات الولاء الإيراني، تعتقد هذه الأوساط أنّ “الجمر تحت الرماد في المخيّم” على الرغم من وقف إطلاق النار. وما بعد الاشتباكات التي حصلت هو الأهمّ.
الأمن استباقي، ولذلك تورد الأوساط نفسها مثلاً على أحد مظاهر انهيار وضعف المؤسّسات في لبنان يتعلّق بالأجهزة الأمنيّة والجيش اللذين كان يجب عليهما أن يتنبّها إلى إمكان حصول صدام في المخيّم، من أجل الحؤول دونه وتدارك المضاعفات.
تستعير هذه الأوساط تحذيرات كان أطلقها الجانب السعودي بعد قرار المملكة العربية السعودية وقف الصادرات اللبنانية إلى المملكة بفعل تكاثر تهريب الكبتاغون من لبنان إليها (في تشرين الأول 2021)، وهو القرار الذي تبعتها دول خليجية في الإعلان عنه. تقول الرواية في هذا الصدد إنّ مجلس الأعمال اللبناني السعودي سمع في حينها من الجانب السعودي حين راجعه حول ضرر هذا القرار على الوضع الاقتصادي المتدهور، توقّعات بأن يؤدّي الفلتان الأمنيّ في البلد والتراخي في ضبط الأمن إلى ما هو أكثر خطورة من تهريب المخدّرات، وهو تسهيل الاتّجار بالبشر، فاستغربت الجهة اللبنانية ذلك، لكن بعد بضعة أسابيع انطلق مركب يقلّ مهجّرين من السواحل اللبنانية صوب أوروبا. والاتّجار بالبشر يُعتبر بالمقاييس العالمية أكبر جريمة دولية أخلاقية وجنائية. فقد تحوّل لبنان إلى دولة بلا معابر منضبطة ومطار وموانئ متروك حَبْلها على غاربها. وهذه هي البيئة التي تعمل فيها المافيا العالمية. وهذا جزء من انهيار المؤسّسات واهتراء الدولة.
زيارة عبد اللهيان للسعوديّة
تقرّ الأوساط نفسها، على الرغم من إيرادها الأمثلة والوقائع عن مسؤولية الفرقاء اللبنانيين عن تدهور مؤسّسات الدولة، والحاجة إلى تحمّل مسؤوليّتها عن الإنقاذ، بأنّ المناخ الإقليمي يلعب دوراً في هذه العملية المعقّدة المؤجّلة بحكم الفراغ الرئاسي منذ زهاء عشرة أشهر.
في هذا السياق كان من الطبيعي أن تتّجه أنظار المهتمّين بمتابعة مدى تأثير التطوّرات الإقليمية على الانسداد السياسي في لبنان إلى التدقيق بما صدر عن الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان للسعودية يومَي الخميس والجمعة الماضيَين.
في انتظار توافر المعطيات عن مدى مساهمة محادثات عبد اللهيان في استعادة مناخ التهدئة وإطلاق مسار الحلول للأزمات الإقليمية، ومنها إنهاء شغور الرئاسة في لبنان، تقتصر المعلومات على قول الوزير الإيراني بعد لقائه نظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود ثمّ وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان إنّ “بإمكاننا العمل مع السعودية لحلّ الموضوعات العالقة في المنطقة فوراً”. لكنّ بتّ هذه الموضوعات يتوقّف على زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي للمملكة العربية السعودية، وفق ما سبق لمصدر دبلوماسي سعودي أن أبلغ “أساس” الأسبوع الماضي.
شوشتري- نصر الله وبلينكن- بن فرحان
في الانتظار يسجّل المراقبون واقعتين:
– زيارة مساعد وزير الخارجية الإيراني مهدي شوشتري للأمين العامّ للحزب السيّد حسن نصر الله في الليلة نفسها لانتهاء زيارة عبد اللهيان للسعودية، من أجل عرض “المستجدّات والتطوّرات في لبنان والمنطقة والاتصالات السياسية الجارية إقليمياً”. ومثلما سبق لعبد اللهيان أن زار بيروت، بعد الاتفاق على استئناف العلاقات الذي رعته الصين بين الرياض وطهران، من أجل دعوة نصر الله إلى “عدم إغضاب السعودية في لبنان”، فإنّ المراقبين توقّعوا أن يؤدّي إيفاد شوشتري إلى العودة عن تجدّد حملات “الحزب” على المملكة، فضلاً عن إثارة الدور الذي يلعبه في التأثير على قيادة الحوثيين في اليمن الذين أخذوا مواقف تصعيدية ضدّها في الأسابيع الماضية.
– اتصال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بنظيره السعودي فور انتهاء المحادثات للاطّلاع منه على نتائجها في ضوء مواصلة التشدّد الأميركي ضدّ طهران حيال سياساتها الإقليمية في المنطقة، ومنها لبنان، على الرغم من اتفاق واشنطن معها على تبادل الإفراج عن سجناء من الجانبين، وصرف أرصدة لإيران بقيمة 6 مليارات دولار مجمّدة في كوريا الجنوبية بحكم العقوبات.
بعض هؤلاء المراقبين ما زال يأمل أن تنعكس أيّ انفراجات إقليمية على مأزق الرئاسة في لبنان على الرغم من تشديد الدول المعنيّة على أنّ الحلول مسؤوليّة داخلية.
وليد شقير- اساس