“البصرة خربت” والآتي أعظم: الفدراليّة… هل وصلنا إلى “الطريق المسدود” فعلاً؟
“التعايش الإسلامي المسيحي”، “الصيغة اللبنانية”، “الميثاق الوطني”، “الوحدة الوطنية”، “جيش شعب مقاومة”، و”الخلل في تطبيق اتفاق الطائف”، أو في “الانقلاب عليه”، لا فيه… كلّها مصطلحات وعبارات وشعارات صارت جزءاً لا يتجزّأ من فولكلور السياسات اللبنانية، التي مالت يميناً ويساراً بحثاً عن الفدرالية. ما كان همساً صارت له منابر تلفزيونية ومنشورات ومحطات إذاعية بعضها يروّج له عن قصد، وبعضها الآخر بغيره.
صارت الفدرالية فنّاً من فنون السياسة للتعبئة والتحشيد. استعمالها يرتفع ويهبط بحسب الحاجة السياسية إليها، أو بحسب حاجة السياسة إليها في المسارات الوزارية والنيابية حول مطلب ما.
قد كان ممكناً المنافحة عن وحدة مركزيّة على الضدّ من الفدرالية المُقنّعة التي تنادي بها القوى المسيحية، لو أنّ كتلة شيعية وقفت بوجه الثنائي المُهيمن. كان متيسّراً أكثر لو أنّ كتلة سنّيّة جابهت الحزب وتسيّده على البلد.
ولو افترضنا أنّ “الفيدراليّة” وجدَت سبيلاً لها في لبنان، يطرح السّؤال نفسه: من يُقرّر السّياسة الخارجيّة والماليّة والاقتصاديّة والأمنيّة للبلاد؟
إذ يحمل أصحاب دعوات التقسيم حجّةً عنوانها عدم القدرة على العيش مع الحزب بسبب إمساكه بالسّياسة الخارجيّة والأمنيّة وضرب صورة لبنان الاقتصاديّة و”خطفه” لقرار الحربِ والسّلم. لكنّ الأمور في الدّول الاتحاديّة تقوم على سيّاسةٍ واحدة في جميع ما سبق، وخير دليل على ذلك الولايات المُتحدة الأميركيّة، وعربيّاً دولة الإمارات العربيّة المُتحدة.
زِد على ذلك أنّ أصحاب مشاريع التقسيم لا يُقدّمون “خريطةً” مُوحّدة تعكس رؤيتهم لمبدأ التقسيم، بالإضافة إلى أنّ قتلى سقطوا قبل أيّامٍ في خلافٍ على رعي الماعز بسبب خلاف عقاريّ بين بشرّي المارونيّة وبقاعصفرين السّنيّة، هذا عدا عن الخلاف التّاريخي بين العاقورة المارونيّة في جبيل واليمّونة الشّعيّة في سهل البقاع، وغير ذلك الكثير من الوقائع التي تجعل من الفيدراليّة شبح حربٍ لا تبقي ولا تذر.
الطريق المسدود
مقولات من مثل “الطريق المسدود” فنّ لا يقلّ أهميّةً ولا تراثاً عن “الميجانا” و”العتابا” وردّيّات التراث البالي. لم يعد ينقص سوى تلحينها وأدائها بصوت فنّان ما غناءً، إذ لطالما تلفّظوا بها هم أيضاً، وأعني هنا الفنّانين اللبنانيين. عبارات ومقولات لا تفعل سوى دقّ ناقوس الخطر: وصلنا إلى طريق مسدود، إلى الانهيار شبه الشامل، إلى جهنّم كما قال آخر رئيس للجمهورية اللبنانية. آخر رئيس؟ نعم آخر رئيس حتى لحظتنا هذه. وهذا ما يبدو جليّاً أيضاً في المدى المنظور.
والحلّ؟ بالعودة إلى التراث السيّء. تراثنا نحن اللبنانيين في وطننا المستحيل هذا، وطننا المتخيّل، أو للدقّة في مكان عيشنا هذا، المساحة التي لا نلتقي فيها إلّا لنتقاتل ونتشاتم ونتعارض ونتناقض و”نتضادّ”.
تراثنا مليء، ففيه كلّ ما يستحليه الشاري أو الراغب، أو الطالب أو الساعي مهما كان سعيه، ومهما كانت البضاعة التي ينشدها، بالغاً ما بلغ سعرها وكائناً ما كان ثمنها. تراث طويل عريض بمروحة واسعة من الخيارات: من “جسر القمر”، “اللي كل ضيعة في بينها وبين الدني جسر القمر، وطالما فيها قلب بيشدّ قلب، مهما تعرّض للخطر ما بينهدم جسر القمر”، كما قال سعيد عقل على لسان أبطال الأخوين رحباني في المسرحية الشهيرة التي تحمل الجسر السابق الذكر، والنادر الوجود، اسماً لها في دلالة على جودة البضاعة وديمومتها وصلاحها في كلّ زمان في هذا المكان الثابت ثبات فولكلورنا نفسه. هذا كان عند اليمين وله.
عند اليسار وأهله، ووصولاً إلى الحرب الأهلية والاقتتال الأهلي، عبروا “الجسر خفافاً”، كما قال الشاعر خليل حاوي، نحو “الشرق الجديد”، وليس انتهاءً بالفدرالية والكونفدرالية اللتين ما انفكّتا تطلّان برأسهما منذ أوّل أزمة وطنية حتى أزمتنا غير الأخيرة هذه.
عودة التاريخ
التاريخ يعيد نفسه لأنّ الجغرافيا لا تتغيّر؟
صحيح.
صحيح أيضاً أنّ اللبنانيين يعيدون “فولكلورهم” كلّ صباح ومع كلّ رشفة قهوة، لأنّهم لا يتغيّرون، أو لا يراد لهم ذلك.
أحدث صيحات الفولكلور اللبناني كانت في “جبلنا”، كما صدح الفنّان اللبناني الراحل وديع الصافي. كلّ الثقافة الأهلية نشدت اللامركزية. صيحة عمرها من عمر الوطن. من عمر انقساماته منذ الانقسام الأشهر والمؤسّس لِما بعده من انقسامات. حصل هذا مع “الكتلة الوطنية” بزعامة إميل إدّه، و”الكتلة الدستورية” بزعامة الشيخ بشارة الخوري. لكنّها صيحة تطلّ هذه المرّة بحُلّة جديدة، حُلّة الانهيار الاقتصادي الذي نرزح جميعنا تحت وطأته من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ومن أقسى التقسيم إلى أقصى الوحدة.
هي حُلّة قديمة تعلوها قلادة جديدة. هي بند من بنود وثيقة الوفاق الوطني، ضُمّ إلى ما طُلب من المجتمعين في مدينة الطائف عام 1989 أن يوقّعوا عليه. وقد فعلوا طائعين، أو للدقّة وقّعوا غانمين، من دون أن يدروا أنّ اتفاق الطائف لا يصحّ القول فيه سوى ما نُسب إلى الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد قوله في “اتفاق أوسلو”: “كلّ بند فيه يحتاج إلى اتّفاق”.
حُلّة تناولها البعض، من “خزائن” الوطن، المُقفلة جيّداً على “ثروتنا الوحيدة” والمفتوحة على كلّ مفترق أو أزمة أو انهيار. لبنان الرحابنة: “موجود وغير موجود”. بهذا المعنى سبقنا نظريّاً نشوء الكون الافتراضي. فالعالم الافتراضي الذي ينتقل الناس كلّهم إليه من شتّى أصقاع العالم عبر الإنترنت في عصرنا هذا، سبقنا الكرة الأرضية قاطبةً إليه ومنذ زمن بعيد. إذ نحن نعيش للأسف في جمهورية افتراضية ووطن افتراضي، الحقيقي فيه أو الواقع هي الجغرافيا والأزمنة التي تتعاقب علينا.
الفدراليّة أو اللامركزيّة الموسّعة
الفدرالية هذه، أو تخفيفاً “اللامركزية الإدارية” كما وردت في وثيقة الوفاق الوطني، ويضيف إليها مسيحيو هذه الأيام “والمالية الموسّعة”، لتصير “لامركزية” لكن مع “استقلال مالي”، وسياسي استطراداً. وهي ليست مطلب فئة واحدة من اللبنانيين، بل هي مطلبهم كلّهم لكن في أزمنة مختلفة. فهي مطلب قديم لأبناء الهوامش بسبب “الحرمان” و”الإهمال” و”التهميش”. ومطلب لأبناء “المتن” أو “القلب” أو “الملحقة به من الأقضية المضمومة – المكسورة”. هي مطلب من مطالب “اليسار” حين كان عندنا “يسار”. ومطلب دائم لليمين أيضاً. مطلب للمحرومين المعاصرين كما كانت مطلباً للمحرومين السابقين.
أبعد من ذلك هي ليست مطلباً، أو بنداً “إصلاحياً” في الدستور فحسب، بل هي واقع قائم للأسف: نحن نعيش في لامركزية السلاح، ولامركزية قرار السلم والحرب، ولامركزية القرار المالي في وجود حاكم للمصرف المركزي بنوّاب أربعة وتوقيع وزير المالية الإلزامي، ولامركزية في اختيار الحلفاء والأعداء.
موجعٌ الكلام؟
نعم.
صادم؟
ربّما.
لكنّ اللامركزية هذه، المطبّقة وغير المُقَرَّة، الدستورية واللادستورية في آن، إلى أين تؤدّي؟
ألا يرى “اللامركزيون” ما نحن فيه وما وصلنا إليه؟
أيعتقدون أنّ اللامركزية الواقعة بقوّة السلاح وقوّة غيره، حين تُشرعَن… ستصلح الخلل؟ تنقذنا ممّا نحن فيه؟
لماذا لا نُقرّ إذاً الدويلات التي داخل الدولة؟ ونرقّي نواب حاكم مصرف لبنان ليصبحوا حكّام مصارف لبنان، ما دامت “البصرة خربت” والآتي أعظم؟
ايمن جزيني- اساس