هل تقود الصين وليس أميركا الثورة التكنولوجية المقبلة؟

فيما عادت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين من بكين في محاولة لاستعادة الاتصالات والحفاظ على العلاقات التجارية مع الصين، والتقى وزير الخارجية أنتوني بلينكن كبير الدبلوماسيين الصينيين في إندونيسيا، إلا أن هذه الحملة من النشاط الدبلوماسي يمكن أن تعرقلها خطط البيت الأبيض لفرض قيود جديدة على الاستثمار الأميركي في التقنيات الصينية بهدف الحد من التقدم التكنولوجي للصين، ومع ذلك، يرى متخصصون وباحثون أنه إذا أرادت الولايات المتحدة استعادة ريادتها في التقنيات الناشئة، والتنافس مع الصين في مجال التكنولوجيا، فعليها أن تتعلم كيفية تسخير قوتها العاملة واستعادة التصنيع بالتوازي مع النجاح في منع سرقة معلومات تكنولوجيا أشباه الموصلات من حلفاء أميركا أيضاً، لأنه من دون ذلك قد تكون الصين، وليست الولايات المتحدة، هي التي تقود الثورة التكنولوجية المقبلة.

ليس مجرد استنساخ

منذ توتر العلاقات بين واشنطن وبكين، وبدء حرب تجارية وفرض قيود على تصدير التكنولوجيا الأكثر تقدماً، سعت الولايات المتحدة إلى استعادة ريادتها في التقنيات الناشئة، من خلال تقييد وصول الصين إلى التقنيات الغربية المهمة وتعزيز الابتكار العلمي في الأراضي الأميركية، فعلى سبيل المثال، فرضت إدارة الرئيس جو بايدن، في العام الماضي، قيوداً جديدة واسعة النطاق على بيع تكنولوجيا أشباه الموصلات والرقائق الغربية المتقدمة للشركات الصينية مع تعزيز التكنولوجيا الأميركية من خلال ما يعرف باسم “قانون شيبس” الذي تبلغ كمية الأموال الفيدرالية المخصصة لتشجيع الابتكار والتصنيع 280 مليار دولار، إضافة إلى قانون خفض التضخم، بهدف مساعدة الولايات المتحدة على استعادة بعض قيادتها العالمية في إنتاج أشباه الموصلات وجوانب التكنولوجيا الأخرى.

لكن التطور التكنولوجي للشركات الصينية، خلال السنوات الأخيرة، يشير إلى أن هذا النهج قد يفتقد رؤية مهمة، وهي أن صعود الصين ليس مجرد نتيجة لاستنساخ ما تفعله الشركات الغربية والسرقة منها، كما أنه لم يعتمد على الاكتشافات العلمية، وإنما يعود إلى التحسينات التي أدخلت في القدرات الصناعية للصين عبر تعزيز القوى العاملة التصنيعية الضخمة والمتطورة في البلاد، بحسب ما يقول دان وانغ، محلل التكنولوجيا في مؤسسة “غافيكال دراغونوميكس”.

دروس من وحي “أبل”

ومن أبرز الأمثلة التي توضح ذلك، أن شركة “أبل” عندما بدأت، لأول مرة، صناعة أجهزة “آيفون” في الصين، عام 2007، كانت تعتمد على فكرة العمالة الرخيصة هناك وليس التطور التكنولوجي، إذ لم تتمكن الشركات الصينية في هذا الوقت من إنتاج أي من مكونات أجهزة “آيفون” الداخلية تقريباً، والتي تم استيرادها من الولايات المتحدة واليابان وألمانيا، واقتصرت مساهمة الصين الإجمالية في الأجهزة على العمل في تجميع هذه المكونات في مصانع بمدينة شينزن.

لكن بحلول الوقت الذي تم فيه إصدار “آيفون إكس”، عام 2018، تغير الوضع بشكل كبير، إذ لم يقتصر الأمر على تجميع العمال الصينيين غالبية الأجهزة، بل كانت الشركات الصينية تنتج عديداً من المكونات المتطورة بداخلها، بعد إتقان التقنيات المعقدة، وأصبح بإمكان هذه الشركات إنتاج منتجات أفضل من منافسيها الأوروبيين والآسيويين، ومع أحدث جيل من هذه الأجهزة، تسارع هذا النمط ليمثل ما تنتجه شركات التكنولوجيا الصينية أضعاف ما كانت تنتجه من قبل.

وما حدث مع “آيفون” كواحد من أكثر قطع الأجهزة تعقيداً، تكرر في كثير من التقنيات الأخرى، وشكل اتجاهاً أوسع في غالبية السلع المصنعة في الصين، إلى جانب هيمنة الشركات الصينية على معدات الطاقة المتجددة، وأصبحت الصين الآن في مقدمة منتجي التقنيات الناشئة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية بما يتحدى الفكرة القائلة إن الريادة العلمية تترجم حتماً إلى ريادة صناعية، واستفادت الصين من القدرة على توسيع نطاق الصناعات الجديدة بالكامل للتغلب على الولايات المتحدة في مجموعة واسعة من التقنيات الاستراتيجية.

تفوق الصين في خطر

ومع ذلك، فإن الجهد الذي بذلته الولايات المتحدة أخيراً لمنع الصين من تحقيق هدفها التكنولوجي الأعلى من خلال حظر وصولها إلى الرقائق الأميركية، من شأنه أن يعرض مستقبل الصين بالكامل كقوة عظمى في مجال الذكاء الاصطناعي للخطر بحسب ما يقول مدير مشروع حوكمة الذكاء الاصطناعي في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية غريغوري ألين، إذ كان الذكاء الاصطناعي على رأس أولويات التكنولوجيا المدرجة في الخطة الاقتصادية الخمسية للحكومة الصينية بين عامي 2021-2026 قبل أن تفرض وزارة التجارة الأميركية 139 صفحة من لوائح الرقابة على صادرات رقائق الكمبيوتر المتقدمة التي تم تصميمها من قبل شركات أشباه الموصلات الأميركية وتدعم خوارزميات الذكاء الاصطناعي، بما يمثل 95 في المئة من الرقائق المستخدمة في الصين.

وعلى رغم أن وزير الخارجية الأميركي أعلن في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عن نهاية حقبة ما بعد الحرب الباردة، ولم يقل إن حرباً باردة جديدة مع الصين قد بدأت، فإنه اقترب من ذلك، لأن تقييد التجارة في التقنيات ذات الصلة بالجيش أمر مستوحى من كتاب الحرب الباردة، بخاصة أن الولايات المتحدة والصين تتفقان على أن قيادة تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي أمر بالغ الأهمية لمستقبل القوة العسكرية، بالنظر إلى أن أنظمة الذكاء الاصطناعي العسكرية الصينية بما في ذلك الأسلحة الفتاكة ذاتية التشغيل، مليئة بالرقائق الأميركية.

إعدام تكنولوجي

غير أن منع ثورة الذكاء الاصطناعي العسكرية في الصين لا يتطلب فقط منع بيع الرقائق الأميركية، ولكن أيضاً منع الصين من صنع مثل هذه الرقائق بنفسها أو شرائها في مكان آخر بما يمثل مسارات بديلة للصين ضد الهيمنة التكنولوجية الأميركية التي تستغلها إدارة بايدن من خلال خنق وصول الصين إلى برامج تصميم الرقائق الأميركية ومعدات التصنيع ومكونات المعدات، وكلها مجالات تعد فيها التكنولوجيا الأميركية مدخلات حاسمة لا يمكن الاستغناء عنها تقريباً، وهو ما يعادل حكم الإعدام التكنولوجي، بحسب وصف مجلة “تايم” الأميركية.

ويعود ذلك إلى أن رقائق الكمبيوتر تعد بمثابة صناعة استراتيجية لها آثار جيوسياسية كبيرة، إذ حققت صناعة أشباه الموصلات إيرادات تبلغ نحو 646 مليار دولار، عام 2022، كما أصبحت عامل تمكين لا يمكن الاستغناء عنه في النشاط الاقتصادي الذي يقدر بعشرات التريليونات من الدولارات سنوياً في جميع أنحاء العالم، بالنظر إلى أن أشباه الموصلات لا توجد فقط في أجهزة الكمبيوتر والهواتف المحمولة، ولكن أيضاً في السيارات والغسالات والبنية التحتية للشبكات الكهربائية وتقريباً كل أنواع أنظمة الأسلحة العسكرية الأكثر تعقيداً، وليس أدل على أهميتها الحيوية مما توصل إليه تحليل أجرته وزارة التجارة الأميركية بأن النقص في أشباه الموصلات قلل الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة في عام 2021 بنحو 240 مليار دولار.

وفي حين لا تمنع ضوابط التصدير الصين من جميع تقنيات الرقائق الأميركية، إلا أنها تمنع الصين من بناء مصانع الرقائق المتقدمة التي تحتاج إليها للاعتماد على نفسها، ومن دون المدخلات التكنولوجية المهمة للولايات المتحدة، بخاصة معدات التصنيع، فإن مصانع الرقائق المتقدمة في الصين ستكون أشبه بشركات الطيران التي لا تستطيع التعامل مع شركتي “بوينغ” و”إيرباص”، وهما الاحتكار الثنائي الذي يزود جميع طائرات الركاب التجارية في العالم تقريباً بحاجاتها، وستكون المنافسة في تصنيع أشباه الموصلات المتقدمة أضيق حتى من الطائرات التجارية، لأن بعض القطع المهمة من معدات تصنيع أشباه الموصلات، لا يوجد لها سوى مورد واحد في العالم، وغالباً ما يكون شركة أميركية، وعلى رغم وجود موردين مهمين لمعدات تصنيع أشباه الموصلات من خارج الولايات المتحدة، وعلى الأخص في اليابان وأوروبا، لكن هذه الشركات متخصصة بشكل عام في مجالات تكنولوجية مختلفة ولا تبيع المنتجات التي تحل محل التكنولوجيا الأميركية.

تحدٍ لأميركا

وإذا كانت الولايات المتحدة تبدو أشبه بالقائد العام بلا منازع في صناعة أشباه الموصلات، ولا يمكن الاستغناء عن التكنولوجيا الأميركية على المدى القريب والمتوسط، بما يجعل العواقب المباشرة لهذه السياسة كارثية بالنسبة إلى الصين، إلا أن بعض الدول الأخرى تمتلك أيضاً تقنيات متقدمة للغاية وكفاءات تشكل نقطة انطلاق قوية لتطوير بدائل للتكنولوجيا الأميركية، وإذا نجحت الصين في إقناع حلفاء الولايات المتحدة بمساعدة الصين من خلال تطوير وتوفير بدائل لأجزاء رئيسة من التكنولوجيا الأميركية، فإن النتائج طويلة المدى لهذه السياسة قد تكون كارثية على الأمن القومي الأميركي والقدرة التنافسية الاقتصادية للولايات المتحدة.

ويعود هذا التحدي إلى أن الصين تتمتع بنفوذ تفاوضي قوي مع الشركات الأجنبية بسبب حجم سوقها المحلية، والتي يعتبرها موردو المعدات مصدراً مهماً للإيرادات الحالية والنمو المستقبلي، إذ بلغت مشتريات الصين من معدات تصنيع أشباه الموصلات 29 في المئة من السوق العالمية، عام 2021، بقيمة 29 مليار دولار، بعدما كانت تمثل 15.6 في المئة من السوق العالمية، عام 2016، بقيمة 6.46 مليار دولار.

وعلاوة على ذلك، أظهرت حكومة الصين استعدادها لاستثمار أكثر من 100 مليار دولار لتعزيز نظام أشباه الموصلات المحلي، كما تسعى من خلال عملاء استخباراتها إلى سرقة معلومات تكنولوجيا أشباه الموصلات الرئيسة، ليس فقط من الولايات المتحدة، ولكن من عديد من حلفائها الرئيسين، وفقاً لما نشرته مجلة “تايم” الأميركية التي حذرت أيضاً من الهجمات الإلكترونية المتكررة المدعومة من الحكومة الصينية، والتي تشكل مصدر قلق كبيراً لحلفاء أميركا، ولهذا سيتوقف نجاح الولايات المتحدة ومستقبل أمنها القومي على ما إذا كان حلفاؤها سيدعمونها في هذا المنعطف التاريخي الحرج.

نقاط قوة الصين

لكن على رغم أن الصين لا تزال متخلفة عن الغرب في عديد من التقنيات المهمة، ولم تحقق سوى قليل من الإنجازات في صناعة الرقائق، بما في ذلك تصميم رقائق الهاتف المحمول وبعض شرائح الذاكرة المتقدمة، وتتخلف الشركات الصينية خمس سنوات في الأقل عن شركة “تي أس أم سي” التايوانية الرائدة عالمياً في مجال أشباه الموصلات المتقدمة، فإنها وسط نقاط الضعف الخطرة هذه، تحرز تقدماً سريعاً في عديد من التقنيات الأخرى، إذ اكتسبت الشركات الصينية مكاسب سريعة مقابل نظيراتها الأوروبية واليابانية في إنتاج أدوات آلية متقدمة مثل الأذرع الروبوتية والمضخات الهيدروليكية وغيرها من المعدات.

ولا يزال بإمكان الشركات الصينية تقديم منافسة قوية لعمالقة الشركات التكنولوجية الأميركية في “وادي السيليكون”، كما تقود الصين العالم في مشاريع البنية التحتية الحديثة، بما في ذلك خطوط النقل ذات الجهد العالي والسكك الحديدية عالية السرعة وشبكات الجيل الخامس، وفي عام 2019، أصبحت الصين أول دولة تهبط بمركبة على الجانب البعيد من القمر، وبعد ذلك بعام، حقق العلماء الصينيون اتصالات مشفرة الكم من طريق الأقمار الاصطناعية، ما جعلهم أقرب إلى إنشاء اتصالات كمومية لا يمكن اختراقها، وتصل الصناعات الصينية إلى معايير عالمية، وتتقدم في مجال الابتكار والعلوم باضطراد، بما في ذلك المجالات الاستراتيجية التي أعطتها الولايات المتحدة الأولوية.

كما تهيمن الشركات الصينية تقريباً على كل جزء من إنتاج الطاقة الشمسية وطورت من التكنولوجيا نفسها التي بدأها الأميركيون حتى أصبحت الألواح الشمسية الصينية، ليست فقط الأرخص في السوق، بل الأكثر كفاءة، وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، احتلت الشركات الصينية أيضاً مراكز قوية في إنتاج البطاريات ذات السعة الكبيرة التي تشغل السيارات الكهربائية مع ابتعاد العالم عن محركات الاحتراق الداخلي، حتى أصبحت تكنولوجيا البطاريات المتقدمة الصينية هي العنصر الأكثر أهمية في صناعة السيارات الكهربائية.

تحسين قدرات التصنيع

ولم تحقق الصين الهيمنة في صناعة مكونات الطاقة الشمسية وبطاريات السيارات الكهربائية والإلكترونيات من فراغ، فقد ارتبط هذا التقدم السريع بنقاط القوة في التصنيع ومراقبة الجودة، بعدما انتقلت القوى العاملة الصينية منذ أوائل التسعينيات من إنتاج الألعاب والمنسوجات البسيطة إلى تحسين قدرات التصنيع وإجراء العمليات المعقدة للغاية اللازمة لإنتاج الإلكترونيات.

ولم تأتِ الابتكارات التقنية الصينية من الجامعات ومختبرات الأبحاث، ولكن من خلال عملية التعلم الناتجة من الإنتاج الضخم نفسه كما تقول مجلة “فورين أفيرز”، التي اعتبرت أنه في قلب صعود الصين في مجال التكنولوجيا المتقدمة، تكمن قدرتها المذهلة على صنع الأشياء، وأنه إذا كانت واشنطن جادة في شأن التنافس مع بكين في مجال التكنولوجيا، فستحتاج إلى التركيز على ما هو أكثر بكثير من التقدم العلمي، إذ يجب أن تتعلم كيفية تسخير قوتها العاملة بالطريقة التي تتبعها الصين، من أجل إدخال الابتكارات على نطاق واسع وبناء المنتجات بشكل أفضل وأكثر كفاءة، وأنه يتعين عليها التعامل مع التصنيع باعتباره جزءاً لا يتجزأ من التقدم التكنولوجي، وليس مجرد عرض جانبي لأعمال الاختراع والبحث والتطوير.

خطأ “المنحنى المبتسم”

وإذا كانت الشركات الأميركية قد أمضت كثيراً من العقدين الماضيين في التركيز على البحث والتطوير والتسويق مع الاعتماد على الصين في عديد من حاجاتها التصنيعية، استناداً إلى أن معظم الأرباح في الصناعات التقنية يتم تحقيقها خلال مراحل التصميم والبحث والتطوير وتسويق المنتج بينما يتحقق أقل قدر من الربح في التصنيع الفعلي، وهو ما يسمى “المنحنى المبتسم”، فقد وقعت الشركات في خطأ استراتيجي حين وضعت مزيداً من الموارد وفقاً لهذا المنحنى مع ترك إمكانات التصنيع تتلاشى، وبسبب ذلك، خسرت الولايات المتحدة منذ عام 2000، نحو خمسة ملايين وظيفة صناعية، بما يعادل نحو ربع قوتها العاملة في التصنيع، مما أدى إلى فقدان المهارات بين العاملين والميكانيكيين والمديرين ومصممي المنتجات، كما أدى على المدى الطويل إلى جعل الولايات المتحدة في وضع سيئ.

ومع ذلك، تظل الحقيقة الاقتصادية مؤلمة في أن الولايات المتحدة ستكون دائماً مكاناً صعباً في التصنيع بسبب قلة عدد سكانها وارتفاع متطلبات الأجور، وحقيقة أن الدولار الأميركي يظل عملة الاحتياط الأولى عالمياً، ما يرفع الكلفة النسبية لإنتاج السلع محلياً، ولهذا لا يمكن للولايات المتحدة أن تتفوق على الصين في معظم الصناعات الضخمة، لكن يمكن لأميركا أن تستهدف الصناعات الاستراتيجية التي تتمتع فيها بميزة نسبية معقولة يمكن أن يمكنها من التفوق في الأداء على الصين من خلال تعزيز إمكاناتها التصنيعية، وتوسيع ريادتها في التكنولوجيا الحيوية، ومعدات إنتاج أشباه الموصلات، ومحركات الطائرات.

اندبندنت

مقالات ذات صلة