الحزب يريد المسيحيّين “ذمّيّين”: سقط القناع…”أخذهم لحماً ورماهم عضماً”؟
التفاهم قائم على “إجر واحدة”. قالها جبران باسيل دون أن يحدّد “إجر مَن”. لم يعد مهمّاً أن نعرف. تفاهم مار مخايل بين الحزب والتيار الوطني الحرّ سقط. التفاهم، كما السلام، إمّا يقوم على “إجرتين” أو لا يقوم، على خلاف الحرب، فهذه يكفي أن يقرّر خوضها طرف واحد كي تندلع.
لم يكن مفاجئاً كلام جبران باسيل. خيبة العونيين كانت متوقّعة. تأخّرت كثيراً. استفاد الحزب منهم إلى الحدّ الأقصى. “أخذهم لحماً ورماهم عضماً”، بحسب القول الشعبي اللبناني. حين تفاهم مع الجنرال كان يمثّل هذا الأخير 70 في المئة من المسيحيين، وحين ترك صهره كان تمثيله المسيحي قد تراجع إلى ما دون 20 في المئة. ولم يكتفِ بذلك. فهو يحاول سحب السجّادة من تحته. وهذا ما دفع بجبران باسيل إلى الكلام علناً عن “تدخّلات لاأخلاقية” في شؤون التيار.
من جهة الحزب، التفاهم مع التيار لم يكن يهدف إلّا إلى أخذ المسيحيين إلى جانبه في صراعه مع السُّنّة والإطباق على الدولة ومؤسّساتها. هدف بدأ الحزب الإعداد له منذ تسعينيات القرن الماضي.
حوار بكركي – الحزب
منذ وصوله إلى الأمانة العامّة للحزب (1993) وضع الأمين العامّ نصب عينيه أخذ المسيحيين إلى جانبه في صراعه في الداخل مع السُّنّة وضدّ مشروع رفيق الحريري الإعماريّ والاقتصاديّ. أرسل وفداً إلى بكركي. كانت زيارة الحزب الأولى للصرح. استقبله البطريرك الراحل نصرالله صفير وقال لأعضائه بلكنته الكسروانيّة وحنكته السياسيّة وعمق تاريخ الموقع الذي يمثّل: “في إشيا مشتركة بيناتنا”. فوجئ الوفد وسأل رئيسه متعجّباً: “كيف؟”، فأجابهم البطريرك: “أنا اسمي نصرالله واسم عائلة أمينكم العامّ الجديد نصرالله”. ربّما اطمأنّ الوفد. ولكنّه لم يُدرك أنّ البطريرك يريد منهم مشاركة اللبنانيين، والمسيحيين خاصّة، في مفهوم الدولة اللبنانيّة. حينها كان مشروع الحزب المعلن “الدولة الإسلاميّة”. وهو مشروع موثّق في البيان التأسيسي للحزب الذي أُعلن في 1985، بعد أربع سنوات على التأسيس الفعليّ لميليشيا الحزب على يد الحرس الثوري للجمهوريّة الإسلامية الإيرانيّة.
لم يتوقّف حسن نصرالله المؤمن بهذا المشروع عن الدعوة إليه إلّا بعدما اختير أميناً عامّاً للحزب لأنّ الموقع يتطلّب ذلك. على الرغم من إدراكه للمشروع السياسي للحزب الذي يتناقض كلّياً مع لبنان الكبير الذي بناه سلفه الياس الحويك، كلّف البطريرك صفير لجنة مؤلّفة من المطران سمير مظلوم (كان حينها مونسنيوراً) والأمير حارث شهاب بالحوار مع الحزب. كان دافعه الأساسي أنّ أفراد الحزب هم لبنانيون وجزء من النسيج الاجتماعي اللبنانيّ. من جهته شكّل الحزب لجنة مؤلّفة من نوّاف الموسويّ وخضر طليس. بدأ الحوار بين الطرفين. في البداية كانت اللقاءات دوريّة. ثمّ تراجعت لتصبح موسميّة. واليوم أقلّ من سنويّة.
لقاءات الحزب مع الكتائب
في موازاة زيارة بكركي أقام الحزب قنوات اتّصال مع حزب الكتائب. الحزب المسيحي الوحيد الذي بقي حاضراً على الساحة السياسيّة حينذاك. فالقوات منحلّة. رئيسها في المعتقل وعناصرها يُعذّبون في أقبية سجون وزارة الدفاع. وأفراد التيار مطارَدون. ومؤسّسه في المنفى. يروي كريم بقرادوني، الذي كان نائباً لرئيس حزب الكتائب ثمّ رئيسه، أنّ لقاءات كثيرة جمعت الحزبين منذ تسعينيات القرن الماضي حتى ما بعد عام 2000، حين عاد حزب الكتائب إلى كنف آل الجميّل.
الفرنسيون يسألون!
لاحظ الفرنسيون المتابعون عن كثب للوضع في لبنان وتطوُّر الحزب فيه، علاقة التواصل بين الحزب والمسيحيين. سألني عنها في عام 2003 الكاتب جيل كيبّيل، الخبير في الجماعات الإسلامية المتطرّفة، أثناء مناقشتي مشروع بحث حول الحزب وحركة حماس في معهد العلوم السياسيّة في باريس. لم يكن لديّ جواب. رحت أبحث المسألة في أطروحة أعددتها لاحقاً لنيل إجازة في الدراسات المعمّقة في الجيوبوليتيك. بعد البحث والتمحيص واللقاءات مع العديد من رجال السياسة والدين من الموارنة والشيعة، بينهم قيادات في الحزب، تبيّن أنّ ما يجري في لبنان هو صراع على السلطة تحت مظلّة الوصاية السوريّة. ولا شيء في العمق في الحوار بين الموارنة والشيعة.
النتيجة ذاتها وصل إليها الحوار بين بكركي والحزب. على مدى ثلاثين عاماً لم ينجح أعضاء لجنة بكركي في مناقشة أيّ من المواضيع الوطنيّة الأساسيّة. وأبرزها الحرّيّة، وأن لا يقوم أيّ فريق بفرض إرادته على الأفرقاء الآخرين. بقي الحوار في أمور آنيّة وسطحيّة اختلفت من فترة لأخرى. لم توقفه بكركي حرصاً منها على إبقاء “شعرة معاوية”.
تفاهم أقلّيّتين
في عام 2008 التقيت ميشال عون في الرابية وراح ينظّر ويدافع عن تفاهمه مع الحزب. كانت انطلاقته أنّ الموارنة والشيعة أقلّيّتان في المنطقة، تجمعهما أوجه شبَه عديدة: تاريخيّة (الاضطهاد)، جغرافيّة (سكان الأطراف)، اجتماعيّة (فقراء يعملون في الأرض) إلى ما هنالك. حسناً فعل الجنرال بعدم ذهابه إلى ما ذهب إليه أحد الكهنة في إحدى خطابات عاشوراء عندما شبّه الإمام عليّ بالمسيح!
لم يكتفِ الجنرال الذي يهوى المعارك بخطيئة التفاهم مع الحزب، بل راح يقوم بمحاربة السُّنّة نيابة عن الحزب. شارك في تطويق حكومة فؤاد السنيورة في الشارع. ونشر كتاب “الإبراء المستحيل”. وأعلن إسقاط حكومة سعد الحريري الأولى من الرابية. ثمّ أعلن أنّه قطع له One way ticket. وراح يعرقل تشكيل كلّ حكومة. وبعدما أصبح رئيساً للجمهوريّة استمرّ في عرقلة عمل رئيس الحكومة سعد الحريري الذي تبنّى ترشيحه وانتخبه رئيساً للجمهوريّة. هذا الانتخاب كلّف الحريري حياته السياسيّة. لبِس ميشال عون وصهره الدور وذهبا فيه أبعد ممّا أراد الحزب.
الحزب يريد المسيحيّين ذمّيّين
ما لزوم هذا الكلام اليوم؟
اليوم سقط القناع. الحزب لم يعد يريد التفاهم مع التيار الوطنيّ الحرّ. لم يعد بحاجة إليه. ما من صراع يخوضه مع السُّنّة. قادة هؤلاء، وعلى رأسهم الحريري الابن، خضعوا لإرهاب “7 أيار” بشكل أو بآخر. تبنّوا سياسة “ربط النزاع” معه. وها هم منقسمون مشرذمون سياسياً، وهو ما يسهّل على الحزب أخذهم أفراداً، أو كتلاً نيابية صغيرة، بعضها أحاديّ الخليّة أو ثنائيّها، بالترهيب والترغيب. وقد أثبتت الأصوات الـ 51 التي نالها سليمان فرنجية ذلك.
سقط القناع. الحزب يريد اليوم المسيحيين “ذمّيّين” في رئاسة الجمهوريّة، وفي حاكمية مصرف لبنان لاحقاً (إذا ما بقي المنصب للموارنة) وفي قيادة الجيش فيما بعد. وهدفه الكبير تحويلهم “ذمّيّين” في الجمهورية المقبلة التي يسعى إلى بنائها بعد أن يستكمل مخطّطه لتدمير أسس الجمهوريّة الحالية. وساعده في تدمير الجمهوريّة، عن إدراك أو عن جهل، العديد من السُّنّة والدروز والمسيحيين بسياسة الفساد التي انتهجوها والتي ساهمت في تدمير الدولة واقتصادها وماليّتها، مقابل صمتهم وسكوتهم عن تجاوزاته وسلاحه واعتداءاته على الدول العربية…
د. فادي الاحمر- اساس