قصّة كلمات قليلة برّأت فيها فرنسا نفسها من “تهمة”…سليمان فرنجيّة!
زوّد موقف وزارة الخارجية الفرنسية الذي برّأت فيه بلادها من “تهمة” دعم رئيس “تيّار المردة” سليمان فرنجيّة، الموصوف من قبل معارضيه ب “مرشّح الثنائي الشيعي”، “الخيال التحليلي الدعائي”، (زوّده) بأجنحة جديدة، فاستخفّ بهذا الموقف داعمو فرنجيّة وراهن عليه معارضوه.
وبعد تدقيق في المعطيات مع مصادر فرنسيّة معنية وشخصيات لبنانيّة نشطت على خط بيروت-باريس، يتبيّن أنّ الظنّ بأنّ فرنسا طوت صفحة فرنجيّة “مبالغ فيه”، ليظهر، في المقابل، أنّ الاعتقاد بأنّها لم تُعد تموضعها في ملف الرئاسة اللبنانيّة، خاطئ!
في الواقع، فإنّ فرنسا، بالموقف الذي أصدرته المتحدثة باسم وزارة الخارجية آن كلير لوجاندر، يوم الخميس الماضي، أعادت التوازن الى الموقف الذي كان عليها أن تُظهره، منذ اليوم الأوّل لوضع يدها على الملف الرئاسي اللبناني.
ولا يكمن الحدث في الأدبيات التي استعملتها وزارة الخارجية الفرنسية في مقاربتها للإنتخابات الرئاسيّة اللبنانيّة، بل في دخول هذه الوزارة على خط هذا الملف، بعدما كانت قد “نأت بنفسها” عنه لمصلحة الخلية الدبلوماسية في رئاسة الجمهوريّة الفرنسيّة.
ما هي القصة؟
منذ أسابيع تلقت باريس تقارير تفيد بأنّ سمعتها قد تدهورت، بشكل غير مسبوق، في لبنان، بسبب انحراف سلوكها عن نهج الوساطة، فهي بدل أن تتموضع في موقع الوسيط انزلقت الى موقع الطرف، بحيث تورطت كثيرًا في دعم سليمان فرنجيّة.
وقد بيّنت دراسة تضمّنت إستطلاعًا للرأي، هذه الحقيقة، بحيث برز أنّ هناك انطباعًا عامًا في لبنان، بأنّ فرنسا “تبيع نفسها لحزب الله من أجل الحصول على بعض المكاسب المالية والإقتصادية في لبنان”.
وأثارت هذه التقارير استياء ضمن المؤسسة الحاكمة في فرنسا، ليس لأنّ الخسارة المعنويّة كبيرة بل لأنّ باريس، إذا لم تعدّل في سلوكها، فهي سوف تخسر القدرة على لعب دور الوساطة، إذ إنّ فيما يتعاطى معها “حزب الله” على القطعة، بدأ أصدقاؤها ينظرون إليها بحذر كبير أوصلهم الى حدود الخوف منها والشك بها!
وحاول مسؤول ملف لبنان في الخليّة الدبلوماسيّة في قصر الإليزيه باتريك دوريل، في الأيّام القليلة الماضية، أن يضع حدًّا لهذه الخسارة التي نتجت عن نشاطاته، ولكنّه فشل في ذلك، لأنّ أدبياته لم تتغيّر، فهو سعى الى إقناع جميع من تواصل معهم في صفوف “الأصدقاء”، بأنّ “خيار فرنجية” ليس وليد قناعة وجدانيّة به، بقدر ما هو “براغماتيّة”، إذ إنّه مقتنع بأنهّ من دون دعم من “حزب الله” لن يصل أحد الى القصر الجمهوري، و”حزب الله” لا يتزحزح عن “خيار فرنجية”، وبالتالي لا بدّ من التفاعل مع هذا “الخيار الحصري” من خلال تحسين ظروفه، سواء من خلال “صفقة متكاملة” تشمل الحكومة وحاكمية مصرف لبنان وقيادة الجيش اللبناني، أو من خلال الحصول على ضمانات تتعلق بإدارة الدولة داخليًّا وخارجيًّا.
ولكنّ شروحات دوريل “البراغماتيّة” أثارت غضب معارضي فرنجية، لأنّهم اعتبروا ذلك دعوة إلى الإستسلام لإرادة “حزب الله”، فهو يُملي ما يريد وهم يكتفون بتحسين شروط ما يفرضه من خلال التوهّم بإمكان الحصول على ضمانات ومكتسبات “فانية” و”مؤقتة”.
وهكذا، فإنّ ما يجد فيه دوريل واقعية سياسيّة، اعتبره “أصدقاء فرنسا” استسلامًا، الأمر الذي ذكّر المتابعين بقول منسوب الى الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران:” إنّ الخيط الذي يفصل بين الحكمة والخيانة رفيع جدًّا”.
وقد استغلّ فرنجية وداعموه هذه “الواقعية” الفرنسيّة، وأخذوها الى مستوى التحدّي، بحيث أعيدت الى البلاد، فجأة، المعادلات التي كانت سائدة في زمن “الوصاية السوريّة”، ومن يدقق في كلام سليمان فرنجية، بعد زيارته الأخيرة للبطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي، يدرك ذلك، فالرجل راح يستعمل للترويج لنفسه تلك الأدبيات “التخويفيّة” التي كان يستعملها ترويجًا لاستمرار الوصاية السورية على لبنان.
وقد استنتجت دوائر القرار في فرنسا الآتي: إذا كان يستحيل وصول رئيس للجمهورية من دون موافقة “حزب الله”، فإنّه يجب الإعتراف بأنّ وصول هكذا رئيس لا يمكن أن يتمّ من دون رضى أكثرية لبنانيّة تضم المسيحيّين والدروز وجزءًا كبيرًا من السنّة.
وعليه كان لا بدّ من التفكير بطريقة تخرج فرنسا من ورطة “العقلانية”، فتمّ التأمّل بداية بإنهاء ولاية السفيرة الفرنسيّة في لبنان آن غريو، ليس لأنّها ارتكبت أخطاء دبلوماسيّة، بل لأنّها-وقد شارفت فترة تكليفها على نهايتها-باتت ترمز الى السياسة المغضوب عليها لبنانيًّا، لكن تبيّن أنّ هذه الخطوة تحتاج الى التروي بفعل الفراغ الرئاسي في “بلاد الأرز”، وتقرر، لاحقًا، في انتظار الخطوة العملية، إصدار بيان “التبرؤ” من وزارة الخارجية الفرنسية.
ودخول وزارة الخارجية الفرنسية على الخط الرئاسي في لبنان لا يمكن التعامل معه كأنّه “روتين” لأّنّ هذه الوزارة كانت بعيدة عن هذا الملف، وتاليًا فإنّ إدخالها إليه، له رمزيته.
وليس سرًّا أنّ فرنسا مضطرة على إبعاد نفسها، ولو لمسافة معيّنة عن فرنجية، إذ إنّ حلفاءها غير متحمّسين له، فالسعودية تجد “لطافته” ظرفيّة وهي التي لدعت منه، مباشرة أو بواسطة رجاله، في كلّ مناسبة كان عليه فيها أن يتّخذ موقفًا تجاه ما يفصلها عن النظام السوري وعن الجمهورية الإسلامية في إيران، والولايات المتحدة الأميركية تعتبره من حماة الفاسدين” في لبنان، وهي التي أنزلت، تباعًا، عقوبات بحق “رجله” يوسف فنيانوس وبحق “صديقيه” تيدي وريمون رحمة.
هل هذا يعني أنّ المواقف التي أطلقتها المتحدثة باسم وزارة الخارجية الفرنسية قد غيّر المعادلات؟
بالطبع لا، ففرنسا لا تزال تعتقد بأنّها تملك خارطة طريق واقعية، ولكن بات عليها أن تعود خطوات الى الوراء لتعود وسيطًا، فماكرون ليس حافظ الأسد وبشار الأسد في زمنهما، وباتريك دوريل ليس غازي كنعان ورستم غزالة قبل أن تتم تصفيتهما.
ولتعود فرنسا الى دور الوسيط، يجب أن تفكّر جديًّا في وضع طروحات “حزب الله” على الميزان نفسه الذي تضع عليه طروحات خصومه، وليحصل ذلك، فالحاجة ملحّة الى إبعاد “الإستعجال” الذي يميّز سلوك ماكرون لمصلحة “التروي” الذي يميّز الدبلوماسيّة!
ولكنّ لينتج إعادة التموضع الفرنسي هذا، يجب أن تعيد القوى المعارضة لفرنجية تموضعها هي الأخرى، لأنّه، في لحظة لا يدركها أحد في ظل هذا الحراك الإقليمي، قد تجد نفسها أمام تحدّي الإنتاج وليس أمام “ترف” استيعاب الفراغ!
فارس خشان- النهار العربي