مساعٍ للعثور على صورة نهائية لشكسبير
في كتابه «ملاحقة شكسبير» يصف المؤلف لي دوركي سعيه إلى العثور على صورة حقيقية وأصلية للكاتب المسرحي الشهير، وهو البحث الذي يتحول إلى قصة مأسوية هزلية في حد ذاتها.
كنت في بكين عام 2010، لإقناع المسرح الوطني في الصين بالانضمام إلى مهرجان عالمي لشكسبير في «لندن غلوب»، حين كنت مديراً فنياً؛ فقد وضعت 16 كرسياً هائلاً بذراعين في مربع مثالي حول مساحة فارغة، جلس 15 من ممثلي المسرح الصيني بوجوه خالية من الانفعال، وكانت أيديهم متدلية ببراعة من أطراف مساند الذراعين بأسلوب رجل العصابات الرزين. جلس ممثلنا الوحيد، أنا شخصياً، محاولاً الإجابة عن الأسئلة وتناول وجبة فطور المعكرونة بعيدان الطعام بشكل أخرق. كان الأمر مُرهباً.
وبأعجوبة، كانت الأمور تسير نحو الإغلاق. ومن ثَم طرحوا حجر عثرة أمام الاتفاق. وبإحساس واضح وملموس كانوا يملكون كشفاً جديداً كاسراً لكل القوالب ومجدداً للعالم بشأن شكسبير؛ إذ زعموا أنهم اكتشفوا صورة نهائية جديدة له. أرادوا إحضارها إلى مهرجاننا. «هل يمكنني أن أراها؟»، سألت متخوفاً.
أدخلت اللوحة على حامل إلى وسط الساحة. كان هناك في الإطار صورة لأمير إيطالي شاب جذاب المُحيا من منتصف القرن السابع عشر: الشعر، والوجه، والتصفيف، يشبه قليلاً أو لا يشبه الشاعر الكبير. أو أي شخص من الزمان والمكان المناسبين. انتابتني لحظة اضطراب أو شرود، كان الجميع يحدقون نحوي بتوقع بالغ. قلت: «هذا لا يشبه شكسبير بأكثر مما أشبهه أنا».
تذكرت هذه القصة عندما قرأت رواية لي دوركي المسلية الخبيثة على مدى قرون عدة من لوحات شاعرنا العظيم المكتشفة، التي فقدت مصداقيتها. كل نصف قرن منذ وفاة شكسبير، يظهر متنافس جديد يدعي أنه الشبه الحقيقي الوحيد الذي يستبعده، بعد ذلك، العلماء والمؤرخون وعلماء الأشعة وعلماء تأريخ التغيرات البيئية لأنه مزور أو مزيف. البحث متخم بالخداع والأوهام، وحتى الآن، لم تنل أي صورة المصداقية بعد. يبدأ دوركي في السعي بحثاً عن الكأس المقدسة نفسها، وينتهي به المطاف محتاراً مرتبكاً من جنون زملائه الفرسان.
يصور دوركي «ملاحقة شكسبير» (أول كتاب له في القصص الواقعية بعد روايتين) تحت قناع مذكرات البؤس بالغة الحدة. وجد دوركي، المولود في ولاية مسيسيبي، نفسه يتحمل فصول الشتاء الطويلة في فيرمونت المتجمدة، بعد طلاقه حديثاً واحتياجه للبقاء قريباً من ابنه الطالب.
وأقرب رفاقه هما الخمر وعقار «أديرال» المنشط. وكانت اللوحات المزعومة لشكسبير من معارفه. يشتعل شغفه عندما يعثر على المنمنمات التي رسمها نيكولاس هيليارد (1547 – 1619)، ومن ثَم يزداد تعلقه بالأمر من خلال دراسة النقش الذي صوره مارتين درويشوت على غلاف المطوية الأولى (تراجيديات وكوميديات وتاريخيات ويليام شكسبير)؛ فلوحة «شاندوس» القاتمة (أشهر الصور التي يُعتقد أنها تصور ويليام شكسبير)، وبعد ذلك العديد من التصاوير الأخرى التي سرعان ما تنتشر عبر حياته الخيالية.
لتحديد مدى صحة الصور، يعلقها دوركي من حوله، مع دراسة الأنوف، والياقات، والندوب بتفاصيل الطب الشرعي، مع هوسه العميق بالتاريخ الإليزابيثي واليعقوبي. ويتحول إلى محقق مهووس يكشف عن الأمور الغامضة للحياة في أوائل القرن السابع عشر. وهو يكتب بمزيج من الذكاء الخبيث والأدرينالين، ويلتقط الاضطرابات والحَمِية الواهنة في هذا العصر بشكل أفضل من كثيرين.
«بعد أن تعرضت للتمزيع، والإفراغ، وتفكيك الأوصال، وإضرام النار في جسدك، نُصبت رأسك على الجسر، وغُمست ساقاك وجذعك في القطران لتُعرض في جميع أنحاء المدينة كأعمال فنية تحذيرية. وفي كل صباح، كانت هذه التماثيل المشوهة تتشبث بالظلال لمشاهدة العصر الذهبي في إنجلترا وهو يستيقظ… بينما كانت جحافل من الرجال الأشقياء يتسللون عبر المجارير بحثاً عن التسلية: الطعام، واللذة المحرمة، والساحرة المحترقة أو الجحيم، في أبهى صوره».
مع استمرار فصول الشتاء الطويلة في فيرمونت، وجد دوركي نفسه متشبثاً بالكحول والعقاقير المنشطة، متعثراً في عواصف جليدية تعيد تأطير الطبيعة في معرض من وجوه الحيوانات المشوهة التي تلوح في الأفق، والتي يسميها «سنداكس»، والتي تُذكره بـ«أين توجد الأشياء البرية». هذا جنون العظمة المعمم، الذي يظهر بصورة مباشرة على نحو يثير القلق، يتحول في نهاية المطاف إلى كراهية ذهانية تقريباً تجاه العديد من مؤسسات شكسبير التي ترفض الاستجابة لطلباته البحثية المعرب عنها في الرسائل، والمكالمات، ورسائل البريد الإلكتروني، وفي نهاية المطاف الرحلات الشخصية.
تصبح «مكتبة فولغر شكسبير» و«صندوق ميلاد شكسبير» أكبر الأعداء المستحقة للذبح. إن شعوره بالاستبداد والسرية العرضية لهذه المؤسسات بين الحين والآخر شعور حاد وصحيح، ومبالغته في وصف غدرهم، واتصالاتهم الواسعة الشبيهة بأحد أجهزة الاستخبارات هزلية إلى حد كبير.
بعد ذلك، وللأسف (ويا له من سقوط هناك!) دوركي يسقط في حفرة تفتيش تتسع لأي شخص لديه نظرة المؤامرة للتاريخ؛ إنه يقع فريسة لترهات التأليف. بعد أن توجه إلى موطنه في مسيسيبي، وبعد أن استبدل بعقار «أديرال» كمية أكبر من الخمر، وانتقل من تقلبات الصور إلى جهل المفترض بالتأليف. ورغم تشكيكه في مستهل الأمر، سرعان ما استسلم لإغواءات الدجالين الأشباح. كل الهياكل العظمية القديمة اتشحت بعباءات من الحرير المهترئ، المتسربة من الخزانة؛ مارلو، وفولك، وغريفيل، وماري سيدني، وكثير من إيرل أكسفورد.
حتى هذه المرحلة، تبدو رؤى دوركي ثاقبة وحكيمة، لذا من الغريب أنه عندما يغوص في فكرة التأليف، يرقص لقاء الحقيقة إثر الحقيقة وليس على هواه، متجنباً الأدلة الكثيرة التي تشير إلى أن شكسبير كان شكسبير باهتزازات ترمب وجونسون المرتعشة. لا يبدو أنه يشعر بالقلق من أن طريقه نحو التشويش يحظى بصلاحية تاريخية مفترضة، من خلال ميل إدوارد دو فير إلى الظهور في جلسات تحضير الأرواح؛ إذ يعبّر عن نفسه أحياناً بالقصائد الشعرية القصيرة المبهرة. وبعد فترة وجيزة، نعمل على إخماد ثغرات المؤامرة، التي تتضمن التنظير إلى الاغتيالات المحتملة التي قد تنفذها مؤسسات شكسبير على مرمّمي صور المولعين بالأطفال. نعم، يصير الأمر جنونياً.
الشرق الاوسط