لبنان يتقشف دبلوماسيا… 17 سفارة وقنصلية إلى الإقفال؟

مع تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية وصعوبة تأمين العملة الصعبة، برزت فكرة ترشيد الإنفاق في البعثات الدبلوماسية اللبنانية وفي الإدارة المركزية في بيروت، وأنجز وزير الخارجية عبدالله بو حبيب في مارس (آذار) 2022 اقتراحاً، يصب في اتجاه خطة إعادة هيكلة الكلفة والنفقات الخارجية، التي كانت بدأتها الوزيرة السلف زينة عكر. اقتراح بو حبيب تضمن تعليق العمل بـ17 سفارة وقنصلية في الخارج إضافة إلى سلسلة إجراءات تقشفية، منها خفض عدد الموظفين الإداريين ودبلوماسيين في عدد من البعثات الدبلوماسية وخفض النفقات الإضافية خصوصاً إيجارات المكاتب ومنازل السفراء والقناصل والمصاريف التشغيلية ورواتب الدبلوماسيين والموظفين المحليين. ويبلغ الوفر المتوقع من تعليق العمل في السفارات الـ17 وفق مصدر دبلوماسي مقرب من وزير الخارجية حوالى 25 في المئة من موازنة وزارة الخارجية بالدولار الأميركي. لكن غياب القرار السياسي والتجاذبات السياسية حال دون عرض الاقتراح على مجلس الوزراء، قبل أن تتحول الحكومة إلى تصريف أعمال، فيما يبدو الأمر اليوم مستحيلاً كون الوزير صاحب الاقتراح يقاطع مع فريقه السياسي، أي “التيار الوطني الحر”، جلسات تصريف الأعمال، اعتراضاً على عدم جواز انعقادها في غياب رئيس الجمهورية.

الاقتراح يتضمن 14 سفارة وثلاث قنصليات

يكشف مصدر دبلوماسي في وزارة الخارجية لـ”اندبندنت عربية” عن تفاصيل الاقتراح المقدم من الوزير بو حبيب الذي حافظ فيه وفق المصدر على التوازنات الطائفية المعتمدة في توزيع البعثات في الخارج بالمناصفة بين المسيحيين والمسلمين. ووضعت اللائحة بعد دراسة تقييم للنفقات وللمردود المالي والسياسي للبعثات، كما اعتمدت الخارجية معايير محددة في اختيار السفارات والقنصليات التي يمكن تعليق العمل بها، وأهمها عدد أبناء الجالية التابعين لصلاحية البعثة خصوصاً إذا كان العدد أقل من 2000 لبناني، وأهمية العلاقات السياسية والتقارير الواردة من البعثات، ومشاركة الدولة المضيفة في قوات الـ”UNIFIL”، والجدوى الاقتصادية للبعثات، وحجم التبادل التجاري بين البلدين. ويتضمن الاقتراح إغلاق ثلاث قنصليات، اثنتين في أوروبا الغربية (ميلانو ومرسيليا)، وقنصلية في ريو دي جانيرو (البرازيل)، و14 سفارة، ثلاث في أوروبا الشرقية (أوكرانيا، بلغاريا، تشيكيا)، وخمس في أميركا اللاتينية (التشيلي، الأوروغواي، الإكوادور، الباراغواي، وكوبا)، وسفارتين في آسيا (ماليزيا وكازاخستان)، وأربع سفارات في دول عربية (البحرين، اليمن، السودان، ليبيا). ويبلغ عدد البعثات اللبنانية في الخارج 89 بعثة من بينها 74 سفارة و 15 قنصلية، تهتم بتأمين متطلبات لبنانيي الانتشار الذين يفوق عددهم ثمانية ملايين.

عجز بـ13,3 مليون دولار

بحسب وزارة الخارجية يقدر الوفر المتوقع لتعليق العمل في السفارات بحوالى 15,5 مليون دولار، في مقارنة بين مجموع وارداتها ومجموع نفقاتها للسنوات الثلاث (2018 و2019 و2020). علماً أن الواردات تختلف من بعثة إلى أخرى بحسب حجم نشاط الجالية في الدولة المضيفة وحجم المعاملات، بحيث تبلغ واردات السفارات في دول الخليج مثلاً بين أربعة وخمسة ملايين دولار. ويكشف المصدر الدبلوماسي أنه تم الخفض حتى الآن حوالى 40 في المئة من الإيجارات و15 في المئة من رواتب الموظفين الإداريين، وتراجعت رواتب الدبلوماسيين بحوالى ثمانية في المئة في بعض الدول وخفضت إلى أكثر من 40 في المئة في دول أخرى كاليابان، والمعلوم أن بدل الاغتراب يحتسب استناداً إلى غلاء المعيشة، وفق جدول سنوي تصدره الأمم المتحدة.

أسئلة وملاحظات في الاقتراح

لا يعد قرار تعليق العمل في عدد من السفارات أمراً مستغرباً في دولة “مفلسة”، وفق ما يشير مسؤول سابق في وزارة الخارجية، مذكراً بأن دولاً عانت أزمات اقتصادية ومالية لجأت إلى تدابير وإجراءات مماثلة، كدولة قبرص مثلاً التي أقفلت سفارتها في لبنان، واستعاضت عنها بتعيين قنصل فخري يقوم بأعمال السفير، وبكلفة أقل بكثير. لكن قبل الشروع في إقفال السفارات بحسب رأيه يجب وقف “التنفيعات” و”التخبيص” في بعض القرارات على حد قوله. وفي خانة التنفيعات أمثلة كثيرة يعددها المصدر لـ”اندبندنت عربية”، كتعيين سفير لدى اليونان بصفة قائماً بالأعمال فيما كان يمكن أن يستعاض عنه بوجود القنصلية العامة هناك، بدلاً من دفع راتب إضافي يتخطى عشرة آلاف دولار. ومن الإجراءات الكفيلة بخفض النفقات التي لم تعتمدها وزارة الخارجية، وقف دفع الإيجار للسفارة اللبنانية في دمشق، خصوصاً أن لا سفير معيناً هناك، ويمكن أن يداوم القائم بالأعمال الحالي لدى بيروت ومتابعة المعاملات. اقتراح وزير الخارجية بتعليق العمل ببعض السفارات والقنصليات لم يتم بحسب المصدر الدبلوماسي وفق دراسة متكاملة، واعتمد المعايير المالية والطائفية، فيما كان يجب أن يعتمد على معايير سياسية واقتصادية وتجارية خاصة بمصلحة لبنان. حتى معيار حجم الجالية غير دقيق، لأنه في أغلب الأحيان لا يكون مرتبطاً بمدخول البعثة وحركتها الناشطة، كما في البرازيل حيث حجم الجالية اللبنانية كبير جداً إلا أن مدخولها الناتج من معاملاتها، بالكاد يكفي مصاريفها. وبحسب المصدر الدبلوماسي فإن مفهوم البعثات ذات المدخول الكبير لا يرتبط بحجم الجالية بل بحجم التجارة في هذه الدولة مع لبنان وبمدى ارتباط الجالية مع البلد الأم، ففي اليابان وكوريا حيث عدد الجالية اللبنانية منخفض مقارنة مع دول أخرى، يتبين أن مدخول البعثتين كبير جداً نظراً إلى حجم المعاملات التجارية في الدولتين، وللبنان مصلحة اقتصادية مثلاً في أرمينيا والمجر حيث عدد الجالية أيضاً ليس كبيراً.

المحاصصة تبقى نقيض الإصلاح

ويتحدث المصدر الدبلوماسي الذي رفض ذكر اسمه عن معيار إضافي يجب أخذه في الاعتبار عند دراسة جدوى بقاء البعثة أو إقفالها، وهو له علاقة بالثقل السياسي الذي تتمتع به الجالية وحجم المشكلات التي تحتاج إلى متابعتها في الدولة المضيفة، ففي برلين مثلاً هناك ملف قيد المتابعة لأكثر من 12 ألف لبناني طلبوا اللجوء ولا تزال قضيتهم عالقة وسط إصرار ألمانيا على ترحيلهم. وللسفارات طوائف يقول المصدر الدبلوماسي لا يمكن تخطيها بغض النظر عن حجم واردات أو نفقات هذه البعثة، مذكراً على سبيل المثال بقرار صادر منذ تسع سنوات بإقفال السفارة في بلغاريا، لكنه لم ينفذ حتى الآن لأن رئيس البعثة يعين دائماً من الطائفة الدرزية. ويتحدث المصدر الدبلوماسي عن أن اهتمام بعض السياسيين ببعض البعثات لا يستند على الفائدة الوطنية بل على حجم التمويل الذي يأتي من الجاليات هناك لتياراتهم وأحزابهم، كما في بعض الدول الأوروبية والأفريقية. يشدد المصدر الدبلوماسي على المعيار السياسي الخارجي لدى دراسة وضع البعثات، ففي طهران مثلاً حيث لا وجود لجالية لبنانية كبيرة كما يقول المصدر، إلا أن ثقل إيران الإقليمي يحتم تعيين سفير للبنان هناك. أما كوبا ذات العلاقة التاريخية مع لبنان التي يقترح وزير الخارجية تعليق العمل في السفارة اللبنانية فيها، فهي من قيادات مجموعة دول عدم الانحياز، وإقفال السفارة فيها قد يفهم خطأ مما قد يؤدي إلى تراجع مساعدتها للبنان مع مجموعة هذه الدول. في المحصلة ينهي المصدر الدبلوماسي، معتبراً أن أي إغلاق للسفارات يجب أن يكون جزءاً من خطة حكومية شاملة للإصلاح والنهوض في البلد، تأخذ في عين الاعتبار الدور الذي يريده لبنان لنفسه ضمن الأسرة الدولية ودور السفارات في خطة النهوض، كتشجيع الاغتراب عبر تنفيذ سياسة اغترابية استثمارية أو جذب الاستثمار الأجنبي للخصخصة أو استعادة دور سياسي وإعادة الترويج لصورة لبنان الجديد للتعويض عن صورة الفشل التي لحقت به، ويضيف “لكن طالما مبدأ المحاصصة مستمر فلا قيامة لنا ولا إصلاح والأمور تسير وفق معادلة business as usual””.

اندبندنت

مقالات ذات صلة