من تَسوُّل رئيسٍ لهم وحكومةٍ إلى تسوُّل المليارات: أي مناخ سيتحكّم بمسار أزمة اللبنانيين؟
مخاض التسوية: 3 يقاتلون و3 يتوسَّطون… والأسد!
منذ أن وقّع السعوديون والإيرانيون «اتفاق بكين»، دخلت أزمات الشرق الأوسط مسارات جديدة، من اليمن إلى لبنان مروراً بالعراق وسوريا. لكن استحقاقاً آخر ينتظر لبنان أيضاً، هو الانفراج في العلاقات السعودية – السورية، ودعوة الرئيس بشّار الأسد إلى قمة الرياض في 19 أيار المقبل. ففي ضوء هذه التحوّلات، أي مناخ سيتحكّم بمسار الأزمة اللبنانية، بعدما خرجت تماماً عن سيطرة القوى الداخلية؟
الخلية العربية – الدولية التي سمّيت «مجموعة باريس»، والعاملة لإنتاج تسوية في لبنان، تكثّف حراكها استثنائياً في الأسابيع الأخيرة. ويمكن الاعتقاد أن ما يجري قد يتحوّل مخاضا محتملا لـ«تسوية» معينة. وإذا كان الطرفان المعنيان باتفاق بكين، المملكة العربية السعودية وإيران، قد أطلقا «وعداً» مبدئياً ببدء ترجمة هذا الاتفاق، خلال شهرين، فهذا يدفع المتفائلين إلى الاعتقاد أنّ المأزق اللبناني يمكن أن يشهد مفاجآت خلال هذه الفترة أو بعدها بقليل.
ولكن، في الواقع، لا يمكن الاستهانة بحجم التعقيدات في لبنان، حيث تحتاج التسوية إلى توافقات متشابكة بين قوى إقليمية ودولية عدة. فصحيح أنّ السعوديين والإيرانيين يمتلكون غالبية القرار على الساحة، سياسياً واقتصادياً وأمنياً، إلا أن قوى أخرى لها تأثيراتها الحاسمة أيضاً، وأبرزها الولايات المتحدة التي تستطيع إحباط أي تسوية لا توافق مصالحها.
لذلك، عملياً، يمكن القول إن «مجموعة باريس» العاملة لتسويةٍ في لبنان، والتي تضم خمسة لاعبين وسينضمّ إليها سادس فاعل هو إيران، تنقسم إلى فئتين:
داخل المجموعة، هناك 3 دول تتقاتل ليحصل كل منها على أكبر حصة في أي تسوية. وهذه الدول هي المملكة العربية السعودية وإيران والولايات المتحدة، وهي التي تمتلك القرار بإبرام التسوية إذا توافقت، ولا يمكن لأحد أن يمارس عليها حق «الفيتو». وإذا تمّ استبعاد أي منها عن أي تسوية يكون مصيرها الفشل.
في الموازاة، هناك 3 دول داخل المجموعة تقتصر أدوارها على بذل الوساطات وتدوير الزوايا بين «القوى المتقاتلة»، لعلها تنجح في إنتاج تسوية. ويحاول كلّ من هذه الدول الثلاث تحقيق ما أمكَن من مكاسب سياسية واقتصادية. وهذه الدول هي: فرنسا ومصر وقطر.
في جانب معيّن، يبدو السعودي صاحب القرار الأول داخل المجموعة، لأنه يمتلك المال والرصيد السياسي إقليمياً ودولياً، كما أنه «يَمون» على القوى الداخلية عموماً حتى المحسوبة وسطية كرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط والرئيس نجيب ميقاتي. كما أن المصنفين خصوم المملكة كـ»حزب الله» يحرصون على الاحتفاظ بحد أدنى من العلاقة مع المملكة، وقد باتوا أكثر حرصاً على ذلك بعد اتفاق بكين.
فلا أحد يجرؤ على فرض تسوية داخلية في لبنان تزعج السعوديين، لأن ذلك سيعني فشلها سياسياً وسقوطها بفِعل انعدام التمويل. وهذا الأمر يدركه السعوديون، ولذلك هم لا يتنازلون عن مطلبهم الأساسي، وهو أن تكون السلطة التي تدير لبنان «غير معادية» لهم.
ولكن، في المقابل، ليست إيران أقل نفوذاً من المملكة في لبنان. وعلى العكس، هي تمتلك أكبر مقدار من القرار في السلطة والهالة العسكرية التي يتفرّد بها حلفاؤها في الداخل. ومن المستحيل تحقيق انقلاب على إيران لأنّ حلفاءها اللبنانيين قادرون على استخدام قوتهم لإحباط المحاولة، كما فعلوا مراراً. ولذلك، إن أي تسوية للملف اللبناني يُفترض أن تمرّ بطهران كما بالرياض.
أما الركن الثالث الذي لا يمكن إمرار التسوية في لبنان من دون موافقته فهو الأميركي، ومن خلاله الإسرائيلي إلى حد معيَّن. ففي يد الأميركيين التغطية السياسية الدولية وآليات عمل المؤسسات الدولية المانحة.
ولا يمكن لأي تسوية أن ترى النور في لبنان إذا لم يرفع الأميركيون حصارهم وعقوباتهم ويطلقوا الضوء الأخضر للمؤسسات الدولية لكي تعود إلى التعاطي مع الحكومة اللبنانية، وإذا لم يعطوا كلمة السرّ للشركات الدولية كي تبدأ فعلاً في استثمار الموارد الغازية من المنطقة البحرية الجنوبية التي جرى فيها ترسيم الحدود، وللحكومات الحليفة والمؤسسات المالية والجهات المانحة بمَد اليد إلى لبنان، وإذا لم يسمحوا بحصول لبنان على الغاز والكهرباء والفيول من مصر والأردن والعراق، وعلى المساعدات المالية من دول الخليج.
إذاً، مأزق التسوية داخل «مجموعة باريس» هو أنّ «الصقور الثلاثة» لم «يُرسِّموا» الحدود بينهم في لبنان، ولم يتوافقوا على تقاسم النفوذ، فيما الوسطاء الثلاثة، أي فرنسا وقطر ومصر، يتخبطون في مساعيهم لفتح باب التسوية، ويقدّم كل منهم ما يمتلك من إغراءات لهذه الغاية.
في الانتظار، على الأرجح، سيكون الوقت سانحاً لدخول العنصر الجديد على اللعبة، وهو دمشق. فالفترة التي تسبق قمة الرياض ومشاركة الرئيس بشار الأسد فيها تبدو حافلة بالتطورات، إذ تتكثّف عمليات التطبيع بين دمشق والعرب، ولا سيما السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر والأردن. وفي الموازاة، تدخل علاقات دمشق بالأتراك مرحلة جديدة، بدعم من موسكو.
إزاء هذه الخلطة، يمكن للبنانيين أن يتصوّروا المناخ الذي سيكون سائداً، عربياً وإقليمياً ودولياً، فيما هم يطلبون من العالم أن يبتكر لهم التسويات لأزماتهم الداخلية، من تَسوُّل رئيسٍ لهم وحكومةٍ إلى تسوُّل المليارات، لعلها تنقذهم من التفكّك والجوع ومخاطر التقاتل.
طوني عيسى- الجمهورية