الأوهام الفرنسية وضمانات لانتخاب فرنجيّة: سياسة عضّ الأصابع!
تتكثّف أشكال الضغوط من قوى داخلية وخارجية في محاولة فرض ترئيس سليمان فرنجية. تقف السعودية وحيدة في مواجهة هذه المحاولات، لا سيما في ظل عدم وضوح الموقف الأميركي الذي يؤيّد في غالبه فكرة”المواصفات” بدون الدخول في الأسماء. وهذا مقابل تمرير مواقف تعتمد البراغماتية والتعامل مع أيّ رئيس يُنتخب.
ماكرون وبن سلمان
ما تزال فرنسا تتقدّم القوى الساعية إلى تكريس رئاسة فرنجية. لا تفوّت ذريعة أو فرصة لمقايضتها، وصولاً إلى اتصال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بوليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، طالباً منه المساعدة لانتخاب فرنجية رئيساً للجمهورية.
رفض الأمير محمد بن سلمان الدخول في مثل هذه التفاصيل. ومن يعرف يعلم أنّ الرجل لا يتناول التفاصيل اليومية ولا يعتمد السياسة من منطلق الأشخاص، بل يكتفي برسم خطوط عريضة وفق معايير واضحة. لكنّ الرئيس الفرنسي أصرّ. فما كان من وليّ العهد السعودي إلا أن أعاد تأكيد تفويض الأمر إلى اللجنة السعودية المكلّفة متابعة ملفّ لبنان. وهي لجنة تعقد اجتماعات مع الفرنسيين وتتابع معهم العمل.
وعندما حاول ماكرون مطالبة الأمير بالتدخّل مع اللجنة، تجاوز بن سلمان المسألة على طريقته، فطلب الرئيس الفرنسي عقد اجتماع أو زيارة وفد فرنسي الرياض، فكان الجواب أنّ الأبواب مفتوحة بعد شهر رمضان.
اللجنة ونزار العلولا
موقف بن سلمان يعني تفويضاً كاملاً للّجنة التي تتولّى الملف اللبناني، ولا سيما المستشار في الديوان الملكي السعودي نزار العلولا، الذي يقول عارفوه في السعودية وخارجها إنّه لم يتدخّل في واحد من الملفّات الكبرى إلا ونجح فيه. وهو تولّى ملفّات عدّة أكثر أهمية من لبنان.
لا يأتي هذا التفويض الكامل للعلولا من فراغ، بل لثقة في أدائه، خاصة أنّه لا يخضع في مقارباته لمعايير غير مطابقة لرؤية بلاده الواضحة والثابتة في ملف لبنان أو سواه. فقد اتّسم الموقف السعودي بالثبات منذ بداية سعي الفرنسيين إلى إنجاز تفاهم مع المملكة قبل سنوات، بينما بدّلت باريس مواقفها مراراً وتكراراً.
ضمانات فرنسا وروسيا
يحاول الفرنسيون مجدّداً إقناع السعوديين بخيار فرنجية. يقولون إنّه الخيار الأكثر واقعية. ويقدّمون وعوداً وتعهّدات ويعلنون أنّهم حصلوا على ضمانات من فرنجية والحزب. من هذه الضمانات:
– تشكيل حكومة كاملة الصلاحيّات.
– ضمان عدم خروج لبنان عن الإجماع العربي.
– عدم حصول الحزب على الثلث المعطّل.
– ضبط الحدود ومنع التهريب.
– أن لا يكون لبنان منطلقاً لأيّ أعمال عدائية ضدّ الدول العربية.
للضمانات قصة أخرى أيضاً. فروسيا دخلت على خطّها أخيراً، لا سيما أنّ موسكو تتبنّى خيار فرنجية. وتشير معلومات إلى أنّ اتصالاً روسيّاً – سعوديّاً حصل قبل مدّة، وحاول فيه الروس البحث في ملف لبنان من بوابة فرنجية، وإقناع السعوديين به، مقابل ضمانات أساسية.
وصل الأمر بالمسؤول الروسي إلى مطالبة السعوديين بكتابة ورقة تنصّ على الضمانات والشروط التي يريدونها، للحصول على التزام من فرنجية وحلفائه بتطبيقها.
تجارب الضمانات الوهميّة
ليست المرّة الأولى التي تدخل قوى دولية وإقليمية على خطّ البحث عن تقديم ضمانات سياسية في بلد لا ضمانة فيه لأحد. من يتحدّث عن ضمانات هو حتماً إمّا لا يعرف لبنان أو يحاول أن يستخفّ بالاستحقاقات، ولا يعرف أنّ المسؤولين السعوديين يمتلكون ما يكفي من خبرة ومعرفة بتاريخ لبنان. فمن يلتقي المسؤولين السعوديين، ولا سيما نزار العلولا أو السفير السعودي وليد البخاري، يجد أنّ لديهم ما يكفي من مخزون سياسي وثقافي مواكب للتقلّبات اللبنانية وللأحوال والأهوال التي عصفت ببلاد الأرز.
بناءً عليه، يمكن إيراد ما لا يحصى من الضمانات التي قُدّمت دولياً وإقليمياً في لبنان وجرى الانقلاب عليها، وهي كفيلة بدفع المؤمن إلى أن لا يُلدغ من جحر مرّتين، فكيف بمرّاتٍ ومرّات. ولنا هنا بعض التجارب المريرة:
– مُنح الرئيس رفيق الحريري الضمانات الأمنيّة على حياته، كفلها الرئيس الفرنسي شخصياً كما غيره من رؤساء الدول، لكنّ الضمانات ذهبت أدراج الرياح واغتيل الحريري.
– في عام 2006، قبل اندلاع حرب تموز، كانت هناك ضمانات بصيف آمن للّبنانيين. لم تدُم الضمانة أياماً، فاشتعلت الحرب وأدّت إلى دمار وانقلاب في الموازين السياسية والعسكرية.
– في 7 أيار 2008 توفّرت ضمانات إقليمية ودولية لحكومة فؤاد السنيورة بضرورة اتّخاذ قرارين بإيقاف شبكة اتصالات الحزب، ودُفعت الحكومة دفعاً في هذا الاتجاه. وبعدما وقعت الواقعة نفض الجميع يده منها ومن الضمانات. ولم يعد المسؤولون الدبلوماسيون يجيبون على الاتصالات.
– حدّث ولا حرج عن الضمانة التي قدّمها وكرّرها الحزب عن عدم استخدام سلاحه في الداخل، فاستعمله مرّاتٍ ومرّات.
– بعد تسوية الدوحة واتفاق “السين السين” قُدّمت ضمانات برعاية دولية وإقليمية للاتفاق. لكن سرعان ما انقلب عليه الحزب وإيران وقطعا الطريق على أيّ محاولة تقارب سورية – سعودية. وسقطت الضمانات.
– عندما أُقرّ إعلان بعبدا في عام 2012 مكرّساً مبدأ النأي بالنفس وعدم التدخّل بشؤون دول الجوار، وتحديداً عدم انخراط الحزب في الحرب السورية إلى جانب النظام، حصل ذلك بضمانات محلية وخارجية، لكنّ الحزب خرج على الاتفاق وقال: “انقعوه واشربوا ماءه”.
– مع اندلاع عاصفة الحزم في اليمن، أمعن الحزب في خرق النأي بالنفس، وتدخّل استشارياً وعسكرياً في الصراع اليمني الذي هدّد الأمن القومي العربي والخليجي.
– لدى انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية وزيارته السعودية، قدّم ضمانات هائلة هو وصهره الذي كان وزيراً للخارجية آنذاك. لكنّ ضماناته لم تكن أكثر من كلام. فسرعان ما انقلب عون وصهره على الضمانات.
ردّاً على كلّ هذه المضبطة، يأتي الجواب سريعاً على طارحي فكرة الضمانات في لبنان: لا بدّ من الانتظار، فربّما يكون الوقت كفيلاً بمعالجة الظرف وتبديل الموقف.
إنّها سياسة عضّ الأصابع التي تحطّم أصابع اللبنانيين، فيما هم سائرون من مهوارٍ إلى مهوار. أمّا الفرنسيون فيندفعون إلى القول إنّهم ينتظرون تداعيات أو انعكاسات الاتفاق السعودي – الإيراني، وما إذا كانت إيران ستتدخّل لتغيير موقف حلفائها في لبنان، مثلاً.
هذا الجواب هو تعبير فرنسي عن عدم قدرتهم على تحقيق إنجاز وتحميل مسؤولية الفشل للآخرين.
خالد البواب- اساس