حرب أهلية رصاصاتها غير مسموعة أشد عنفاً: فيها غالب ومغلوب؟
أقلتم بالعودة إلى بشّار؟ فهل هذا حقاً رهان لبناني منطلق من الصواب؟ هل يجد هؤلاء جواباً جدياً على أوهامهم بأن النظام السوري قد انتصر؟ وإذا كان الانتصار كذلك، فلا بد إذاً من الشروع بقراءة المشهد من منظور أصحاب هذه الفكرة. هؤلاء الذين شرعوا سريعاً إلى ما وراء الحدود لصدّ الهجوم أو المعارك تفادياً لوقوعها في لبنان، وتلافياً لها ولتداعياتها. كانت دعوة علنية وصريحة بأن يذهب من يريد القتال والنزال إلى ساحة الوغى في سوريا. توّهم اللبنانيون قدرة على تلافيها، كما توهموا القدرة في التغلّب على مقاييس الجغرافيا. سنوات من الاقتتال والاستنزاف، وظنّهم أنهم يقفون على “الضفة الصحيحة من التاريخ” وبأنهم نجحوا في النأي بالنفس أو بتحييد أنفسهم عن ما يجري، فإذ بهم يستدعون مآثر تلك الحرب إلى حضنهم. ولم يتعلّم هؤلاء، فيعودون إلى استدعاء “الدب” إلى الحضن. سواء من يتوهم انتصاراً مستعجلاً لإعلانه، او من راهن ولا يزال على متغيرات إعجازية ستقلب هزيمته انتصاراً.
صراع على ممرّ الفيلة
يحتفي لبنانيون في ما يعتبرونه انتصاراً للنظام السوري. يغرقون أكثر في أوهام عودته أو تدخله وفق صيغتين. الصيغة الأولى للتدخل في أعقاب الحرب الأهلية اللبنانية. والصيغة الثانية في وصاية مغلّفة بغطاء إقليمي ودولي في فترة السلّم. يعتبرون أن لبنان لا يحكم إلا من سوريا، فيراهون على تطبيع عربي أو دولي، ويستعجلون إعلان الولاء بحثاً عن مكسب. فيما الأرض التي يقفون عليها تخور من تحت أقدامهم. كما يخور عرش الشام تحت أجساد وجماجم السوريين، وتحولت الأرض إلى رطوبة نزعت عنها صلبها وصلابتها. مثل هؤلاء يعيشون في زمن مضى، بعضهم يعتبر أن سوريا ستعود كما كانت. تماماً مثلما يتوهمون أن لبنان سيعود إلى ما قبل حقبة انهياره.
يدفع لبنان ثمن الدخول في صراع على ممرّ الفيلة. هو الدور المتوهم في تغيير الموازين والمعادلات، فكانت النتائج مباشرة عليه في الانهيار المشهود والمعاش اليوم. وما انطوت عليه الحرب السورية من كل أشكال الصراع المذهبي والطائفي والمناطقي والطبقي، ها هو حاصل في لبنان اليوم، وصولاً إلى استعار الصراع المذهبي والطائفي ما قبل حادثة “الساعة” وإلى ما بعدها.
عقلية الاستئثار والاستقواء
إنها الحرب الأهلية التي يعيشها اللبنانيون منذ سنوات تنفجر مجدداً في مجلس النواب من خلال النزاع بين النواب وصراخهم وصولاً إلى التضارب بالأيدي وإهانة المقدسات، والذي يعلق عليه نواب آخرون بأن الأمر خطير جداً وأنه يمكن أن يأخذ البلاد إلى فتنة لا يريدها أحد. هي حرب غير معلنة اتخذت طبائع متعددة، بعضها سياسية بين محورين، وبعضها مذهبية بين السنة والشيعة، وصولاً اليوم إلى تكريس معادلة متجددة كصراع إسلامي مسيحي. حقبة الحرب السياسية كانت عنواناً لصراع سنّي شيعي بعد اغتيال رفيق الحريري، مروراً بأحداث 7 أيار وصولاً إلى الانقسام حيال الثورة السورية. اتخذت الحرب عنواناً واضحاً بين أقليات وأكثرية.
والذين انتابهم بعض الحرج من مشاهد 7 أيار 2008، يتحاشونها اليوم بابتكار أسلوب جديد أكثر ترهيباً وفعالية من إنزال مسلحين او قمصان سود. فتعطيل السياسة والاقتصاد وعزل اللبنانيين عن العالم هو الأسلوب الأخطر. بدلاً من إطلاق الرصاص يحلّ إغلاق الدولة ورمي مفاتيحها. هذه الحرب نتاج لعقلية الاستئثار أو الاستقواء، كما هي نتاج لعقلية شرهة جموحة لا تبحث غير عن الخلود والتأبد. وتجتمع فيها نوازع عصبية ونفسية. فيها ادعاء المظلومية وإهدار الحقوق لمن جعل من نفسه وصياً على هذه الحقوق كما على الدولة ككل. وفيها مقاربات “عددية” أيضاً سبقت خطيئة تأخير اعتماد التوقيت الصيفي. ومما سبق أيضاً تقسيم اللبنانيين إلى فئات، مواطنون فئة أولى بالمعنى الاجتماعي الثقافي، ومواطنون درجة ثانية وفق المعيار ذاته، وهي التي كان قد ابتكرها أحدهم تحت شعار ” اللبنانوية” أو التفوق على التخلف. وهناك تصنيف آخر بين مواطنين درجة أولى المحظيين بقوة السلاح وحمايته والقادرين على تجاوز القانون والسطو على مشاعات وممتلكات. في مقابل مواطنين درجة ثانية الدولة قادرة عليهم وحدهم فقط.
غالب ومغلوب
ما يقوم عليه لبنان اليوم، يرتكز على مسألة تكريس منطق الغالب والمغلوب. وهو ما يعكس المنطق والطبيعة، إذ حتى في أيام الحرب الأهلية، لم يكن أحد يتبرأ من صيغة لا غالب ولا مغلوب. على الرغم من كل النزاعات السياسية والعسكرية وصولاً إلى الطائف، كان شعار الصواب السياسي هو تلك الصيغة، على قاعد التوازن. كل طروحات الأطراف المتحاربة لم تبتعد يوماً عن هذه الصيغة، ولو حتى لفظياً، وإن كانت الباطنية تضمر أمراً مختلفاً. وفي عز الانتصار العسكري للحركة الوطنية في العام 1976 وقبل الدخول السوري إلى لبنان، لم تتبرأ من ذاك الشعار. وحتى في لحظة انتصار بشير الجميل وانتخابه، كانت أيضاً هذه الصيغة، مرفوعة. كل اتفاق الطائف قام على صيغة التوازن ووقف العد واللاغالب ولا مغلوب.
المستجد الخطير اليوم هو شعور أطراف بأنها مغلوبة ويتم الإمعان في انغلابها، في مقابل شعور “الشيعية السياسية” بأن لا سبيل لديهم سوى الغلبة ومراكمة الانتصارات، ولو كان ذلك على حساب صيغة ونموذج وكيان، وما تبقى من مرتكزاته. وهذا هو السبب الأساسي للخلل الكبير الذي يعتري علاقة اللبنانيين ببعضهم البعض، ويجعل قسماً منهم يلجأ إلى الفيدرالية أو التقسيم أو الانفصال والطلاق ملاذاً أخيراً، فيما يجعل القسم الآخر مزهواً بقوته وسلطته أو بالأحرى تسلّطه.
العرس والكابوس
الواقع المعاش اليوم يقول لنا إننا في حرب أهلية رصاصاتها غير مسموعة، شظاياها غير مرئية. لكنها لا تقل عنفاً ووحشية وتخلفاً عن الحرب الحقيقية. ونتائجها التدميرية ليست في العمران بل في البنى الإجتماعية والمعنوية والسياسية والاقتصادية والمالية والمؤسساتية. وفي قلب مرافق الدولة وآلتها الضخمة. الحرب الأهلية اللبنانية القائمة اليوم متفجرة في النفوس وعلى ألسنة السياسيين ومشتعلة في الفضاءات العامة والإعلامية. فيما خطوط التماس ظاهرة وخطرة والقنص فيها على مدار الساعة.
في الحرب العسكرية هناك ضحايا بالعشرات أو بالمئات، أما اليوم وفي ظل حرب أهلية غير مسلحة يقع اللبنانيون بمجموعهم ضحايا لكل هذه الآلية القائمة. وهذه الحرب القائمة اليوم قد دمّرت قصر بعبدا ووسط بيروت ومرفأها وفنادقها ومطارها ومصارفها، تماماً كما جرى في السبعينيات والثمانينيات خلال الحرب العسكرية. هذه الحرب القائمة اليوم تتسبب بهجرة على نحو أفدح بكثير من موجات الهجرة التي حصلت في الماضي. هذه الحرب هي النتيجة المباشرة لانكسار الشعب اللبناني في خريف 2019. فمن أراد عرساً وطنياً في ذاك التشرين، جاءه كابوس الفتنة الطائفية كجواب من طبقة لا تريد التخلي عن أي من سلطاتها أو امتيازاتها.
منيرالربيع- المدن