“الرّئاسة اللبنانيّة” خلاف مستحكم بين السّعودية و”إيران – فرنسا”!
تتسارع التطورات في المنطقة، من سوريا إلى اليمن والعراق، على وقع الاتفاق السعودي – الإيراني الذي يشهد تقدماً على مستوى العلاقات. التطور الأبرز بعد اتفاق تبادل الأسرى بين القوى المتحاربة في اليمن هو الإعلان عن استئناف الخدمات القنصلية وفتح السفارتين بين السعودية وسوريا، ما يشكل مدخلاً لعودة دمشق إلى الصف العربي وإعادة مقعدها في جامعة الدول العربية. هذا التقدم لا يبدو أنه يطال لبنان حتى الآن، على الرغم من الحركة الدولية والزيارات المكوكية لمسؤولي الدول والمنظمات الدولية للدفع نحو إنجاز الاستحقاق الرئاسي والسير في الإصلاحات المطلوبة. فيما يتواصل الانهيار في البلد موصولاً باهتراء مؤسسات الدولة ومزيد من الاستعصاء، فضلاً عن التصعيد السياسي الذي يتصدره “حزب الله” لإيصال مرشحه إلى منصب رئاسة الجمهورية.
كان لافتاً إعلان رئيس بعثة صندوق النقد الدولي إلى بيروت أرنستو راميريز أن “لبنان في وضع خطير، تقدّم الإصلاحات في لبنان بطيء للغاية بالنظر إلى درجة تعقيد الموقف”. هذا مؤشر على أن الجهات الدولية غير مستعدة لمساعدة لبنان أو منحه قروضاً لانتشاله من أزماته، ما دام الاستعصاء الداخلي والصراع الذي يزيد الدولة هشاشة ويلغي معالمها مستمراً. توازياً أجرت مساعدة وزير الخارجية الأميركية بربارة ليف خلال زيارتها بيروت، محادثات مع عدد من المسؤولين من دون أن تعلن مواقف محددة من الأسماء المطروحة للرئاسة، مشددة على الموقف الأميركي من الاستحقاقات والإصلاحات، ما يعني أن الأميركيين يرفضون الطروحات الفرنسية في شأن المقايضة عبر دعم مرشح “الثنائي الشيعي” سليمان فرنجية، والتي شكلت نقطة خلاف في اجتماع باريس الثنائي بين السعودية وفرنسا. وسبق ذلك زيارة قام بها المسؤول الإيراني المقرب من المرشد الأعلى، كمال خرازي لبيروت، صنّفت ضمن الاهتمام الإيراني بلبنان كساحة للنفوذ لا يتم التنازل عنها.
يبدو الملف اللبناني في ظل هذه التطورات العربية والدولية أكثر تعقيداً، ولا يزال خلافياً، ما دام لا تقدمَ في إنجاز الاستحقاقات الدستورية أو حتى العبور إلى تسوية مرحلية، على الرغم من التقاطعات التي تسجل في دول المنطقة، لا بل يتفاقم الصراع وترتفع الشروط وسط رهانات كل طرف على التغييرات الإقليمية لتحسين موقعه في المعادلة والتوازنات القائمة. وعلى هذا تسعى قوى الممانعة أو ما يُعرف بقوى “الثامن من آذار” إلى تعزيز وضعها لإيصال مرشحها إلى رئاسة الجمهورية، وهو سليمان فرنجية، معتبرة أن التطورات في المنطقة، من الاتفاق الإيراني – السعودي إلى عودة العلاقات الدبلوماسية بين سوريا والسعودية يرجح خيارها الرئاسي وفق موازين القوى القائمة. علماً أن الإعلان عن فتح القنصليات لا يعني أن السعودية تخلت عن شروطها التي وضعتها لعودة العلاقات كاملة مع سوريا، وهو يشكل بما يعني عودة سعودية إلى المسرح، مدخلاً لتنفيذ تعهدات النظام السوري حول عدد من القضايا مرتبطة بالحل السياسي للأزمة، بينها ضبط الحدود ومنع التهريب.
وفيما تحتاج عودة العلاقات السعودية كاملة مع سوريا إلى وقت طويل، وأيضاً انعكاسات الاتفاق الإيراني – السعودي، قد تتأخر أيضاً مفاعيلهما لبنانياً، وهو أمر يندرج في إطار الصراع ضمن الاتفاق على تعزيز المواقع، علماً أن كل الأجواء تشير إلى أن الملف اللبناني بالنسبة إلى السعودية يختلف عن وجهتها في التعامل مع سوريا، ما دام المتاح حالياً بغياب معارضة موحدة، استدعى الانفتاح على النظام، فيما لبنان يعاني صراعاً غير محسوم بين قوى متناقضة، وإن كانت قوى الممانعة بقيادة “حزب الله” مهيمنة على مفاصل أساسية وتملك فائض قوة تريد استثماره في أي تسوية أو حل لبناني محتمل. لذا تبدو انتخابات الرئاسة اللبنانية الملف الأكثر احتداماً الذي يشكل مدخلاً للتسوية وتشكيل الحكومة و”الإنقاذ”. وانطلاقاً من ذلك، تراهن الأطراف المحسوبة على الممانعة على أن تنعكس التطورات الإقليمية لمصلحتها في الوضع الداخلي وانتخابات الرئاسة، فتصعّد مواقفها لإيصال سليمان فرنجية، في سيناريو شبيه بمرحلة انتخاب ميشال عون في عام 2016.
يتصدر “حزب الله” موقف قوى “الثامن من آذار”، متسلحاً بقوته الإقليمية والدعم الإيراني، لإيصال مرشحه الذي حدد مواصفاته مسبقاً بـ”رئيس لا يطعن المقاومة”، ما يعني أنه غير منفتح على تسوية مختلفة كإيصال رئيس حيادي أو تسووي، وهو ينطلق بذلك من حسابات محلية وإقليمية، مفترضاً أن العودة السعودية إلى سوريا هي انتصار للنظام السوري ستعزز موقفه وسيلقى الدعم لإيصال فرنجية، لذا لن يقدم أي تنازل عن هذا الخيار، لا بل يسعى لتعزيز مكاسبه التي حققها في المنطقة، إضافة إلى تكريس دوره الإقليمي في سوريا وغيرها. والأهم بالنسبة إليه هو تكريس قوته في لبنان وتثبيت حصته الأساسية في السلطة عندما يحين الحل أو ينضج لدى الدول حول لبنان. ويعتبر “حزب الله” وفق ما يُسرب من أجواء أن النظام السوري لن يذهب إلى دفع ثمن سياسي لعودة علاقاته العربية ولن يؤثر ذلك على تأييده لفرنجية، لا بل سيعزز من موقع قوى الممانعة في لبنان، وسيقود ذلك إلى تسليم الجميع، بمن فيهم السعودية، بالأمر الواقع تبعاً لموازين القوى، وهو ما يعني التسليم بالنفوذ الإيراني في لبنان.
يستند “حزب الله” في موقفه التصعيدي من الرئاسة بخيار فرنجية، إلى تأييد الفرنسيين لانتخابه على قاعدة المقايضة، وهو تأييد له أيضاً امتدادات داخلية وخارجية من لبنان إلى سوريا والعراق، الأمر الذي شكل نقطة خلاف مع السعودية في اجتماع باريس الثنائي الأخير، إذ يتبين أن لدى فرنسا أولويات تتعارض ولا تتوافق مع الثوابت السعودية حول الحل أو الوصول إلى تسوية انتخاب رئيس للجمهورية. الأولى تستعجل إنجاز الاستحقاق الرئاسي عن طريق مسايرة الأمر الواقع التي تفرض وفق مفهومها المقايضة تبعاً لموازين القوى القائمة، وأيضاً ترتبط بحسابات اقتصادية ومالية واستثمارات نفطية تمتد من لبنان إلى العراق، فضلاً عن الدور والموقع، والثانية لديها اعتبارات سياسية محلية وإقليمية أُدرجت ضمن بنود الاتفاق السعودي – الإيراني الأخير، والذي ينعكس على ملفات المنطقة وبينها لبنان. لذا لم يكن مفاجئاً التباين بين موقفي الدولتين في الملف الرئاسي، وهو ما أدى إلى عدم التوصل إلى تفاهمات يمكن أن تشكل خريطة طريق لطرحها على الاجتماع الجديد المرتقب لدول باريس الخمس.
يتضح من خلال الأجواء السياسية أن السعودية، رغم انفتاحها على سوريا، مصرّة على موقفها في الشأن اللبناني، خصوصاً في ملف الرئاسة، انطلاقاً من بنود الوثيقة الخليجية الأولى، أي أن الرئاسة مرتبطة بجملة ملفات لبنانية وإصلاحات، تبدأ بانتخاب رئيس إنقاذي، وهو بالنسبة إليها لا ينطبق على سليمان فرنجية، وبالتالي لا يتقاطع موقفها مع المبادرة الفرنسية القائمة على المقايضة لتمرير الاستحقاق بأي ثمن، ويتعزز بالتباين أيضاً بين الأطراف الدولية الأخرى، أي الولايات المتحدة الأميركية وقطر ومصر، مع وجهة نظر فرنسا اللبنانية، وإصرارها على تبوّء دور يتجاوز ما اتفق عليه من مقررات في اجتماع باريس الخماسي، ويعني ذلك أن الأزمة اللبنانية مرشحة لأن تطول، فيما اهتز الدور الفرنسي الذي كانت تجاهر باريس على أنه يتوافق مع حلفائها، خصوصاً السعودية وأميركا.
لكن “حزب الله” سيتمسك أكثر مع محوره بترشيح سليمان فرنجية، مراهناً أيضاً على تنازلات ستقدمها السعودية بعد اتفاق بكين، وتكرسها موازين القوى بعد الانفتاح على النظام السوري، وإن كان الحزب راهن على إمكان أن يُغير الفرنسيون من الموقف السعودي للدفع بانتخاب فرنجية رئيساً عبر تسوية عن طريق المقايضة. لذا سيكون التأزم السياسي عنواناً مستمراً في لبنان، ما دام لا أحد مستعد لتقديم تنازلات لمعالجة الأزمة، وقد نشهد ضغوطاً سياسية ومالية تزيد من حالة الاهتراء والتحلل والإفلاس، إلى أن يظهر من هو قادر على انتشال البلد من الغرق.
ابراهيم حيدر- االنهار العربي