قراءة في الاتفاق الإيراني – السعودي!

أولا لا بدّ من التوقف عند أربع مسلمات في هذا الاتفاق:

1 – أنه أول اختراق صيني أمني – سياسي في الشرق الأوسط وفي منطقة كانت حكرًا على أميركا منذ عدوان السويس العام 1956 (العدوان الثلاثي على مصر: فرنسا – أنكلترا – إسرائيل) وهذا الاتفاق الاختراق هو الأخطر لأنه يرسّخ موطئ قدم الصين الاقتصادي المستجد والمتجدد بين أوروبا والشرق الأوسط والشرق الأقصى – طريق الحرير الذي عاود نشاطه من إيطاليا حتى شنغهاي (واختراع مؤامرة الكورونا من إيطاليا تحديدًا بعدما شهدت نشاطا اقتصاديا – تجاريا متبادلاً وناشطًا منذ سنوات).

2 – سقطت فزّاعة ايران التي تهدد الأنظمة المحيطة بها وتصدّر الثورة اليها وتزعزع أنظمتها وتضرب استقرارها. هذه الفزّاعة التي استخدمتها أميركا لعقود وعقود للهيمنة على المنطقة و”احتكار” ولاء قادتها بالخوف والتخويف وبيع الأسلحة وبث الكراهية وضخ السموم الطائفية والمذهبية بين السنّة والشيعة لتبرير حصار ايران منذ 1979، أضف الى اختراع مصطلح محور الشر والممانعة، فماذا تسمّي أميركا اليوم هذا المحور؟

3 – التحول الاستراتيجي والجذري في الخطاب السعودي تحديدًا من أميركي – إسرائيلي بحت الى صيني – روسي (مع ترك هوامش للفرنسيين والأوروبيين لضمان عدم اصطفافهم نهائيًا الى جانب أميركا). هذا التحول الجوهري يتيح القول أن السعوديين – ومع حفاظهم بالطبع على شراكة قوية استراتيجية مع واشنطن، إلا أنهم انتقلوا من عباءة الأحادية الأميركية الى مظلة التعددية والثنائية والثلاثية القطبية مع روسيا والصين. وهذا الأمر إن دل على مؤشر رئيسي فهو أن أميركا ترى مصالحها بواسطة السعودية ولا تقف عند مصالح الرياض. اليوم، الرياض تلعب مع واشنطن اللعبة التي تلعبها إسرائيل مع شريكتها الكبرى واشنطن. نحن ندير مصالحنا ونهتم بهواجسكم لكن نحن في الوقت عينه قادرون على تولي زمام أمورنا – خصوصًا بعد الخيبة السعودية من الأميركيين في اليمن وتلاعبهم بهم مع الإيرانيين بشكل غير مباشر بمعنى أن الإيرانيين يريدون الاتفاق في اليمن والمنطقة مع الأميركيين من باب الاتفاق النووي وليس مع السعودي من الباب اليمني أو غير ذلك.

4 – الاتفاق مع السعودية (من وجهة النظر الإيرانية) قفز الى الأولوية والى الصدارة في تطورات المنطقة وترك مفاوضات فيينا في الخلف وجعل الاتفاق النووي الأميركي – الإيراني أكثر إلحاحًا للأميركيين وأقل حساسية للايرانيين – مع التأكيد على اهتمامهم الواضح بالتوصل الى اتفاق – لكن مع أوراق القوة والتفاوض والمناورة التي حصلوا عليها من الاتفاق الثلاثي الحالي فإن هامش التحرك والضغط المعاكس المضاد بات في الجانب الأميركي – الإسرائيلي – الأوروبي وليس العكس. ايران مهتمة لكن غير مستعجلة على الاتفاق مع الإشارة الى أن الأميركيين – وفي رشوة مفضوحة للايرانيين – أوعزوا للعراقيين بتحرير نصف مليار دولار من الأموال الإيرانية منذ أيام!! وهذا يعني أنهم مهتمون بالمدى الذي يمكن أن يصل اليه هذا الاتفاق.

في القراءة القريبة، لا يجب نسيان أو التغافل عن أن الاقتصاد الصيني تضرّر بنسب كبيرة منذ 3 سنوات بسبب الجائحة العالمية كورونا ومنذ سنة بسبب الحرب الأوكرانية. فالانكماش الاقتصادي الدولي أدى الى خسارة 6 تريليون دولار من الاستثمارات الصينية وللمرة الأولى يبلغ العجز والدين الداخلي الصيني ضعفي الناتج القومي المحلي وأكثر. الصين لم يكن يمكنها الاستمرار في سياسة التفرج والمراوحة وهي التي اقترحت على الإيرانيين أن تكون وسيطًا بينهم وبين السعودية منذ سنتين. والجميع يذكر أن الباب فتح مع زيارة وزير الخارجية الإيراني منذ سنتين الى بكين وزيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي الى بكين منذ سنة ونصف والقمة الصينية – السعودية التي حصلت منذ أشهر في السعودية كانت شرارة الانطلاق للمبادرة الصينية.

هذا الاتفاق هو خطوة أولى لاستعادة الأمن المفقود في المنطقة نتيجة التدخلات الأميركية “المتمادية” من خلال ابتزاز الأنظمة والشعوب بالفزاعة الإيرانية كما سبق ذكره.

نحن حقيقة الآن أمام تشكل نظام عالمي جديد – الآن يمكن الحديث وبكل وضوح عن بروز ملامح هذا النظام وروسيا هي طرف أساسي في هذه الاتفاقية – وباستطاعتنا أن نقول على الطريقة اللبنانية – انه اتفاق رباعي وليس ثلاثي أي سعودي – إيراني – روسي – صيني.

وتحسبًا لكل الاحتمالات المترتبة على الاتفاق وخصوصًا لجهة تراجع احتمالات عودة مفاوضات فيينا، نحن نتوقع المزيد من العقوبات على ايران وعلى روسيا وعلى تصاعد منسوب الحرب الباردة مع الصين. لكن بشكل أساسي نتوقع تصاعدًا في التوتر مع أميركا وهذا يشمل كل المنطقة دون استثناء.

قد نشهد تصعيدًا في اللهجة الأميركية واستخدامًا متزايدًا للغة التدخل والحركة العسكرية لمزيد من الضغط والتخويف والترهيب ريثما يضع خبراء البنتاغون والـCIA والأمن القومي وجماعة الخارجية مخارج ومنافذ نجاة تحفظ ماء وجه صنّاع القرار في واشنطن الذين يحاولون حشر أنوفهم في الاتفاق من خلال ادعاء معرفة ما كان يجري في شأنه ووراء كواليسه وهم لا يعملون شيئًا ونحن أيضًا – ومن دون مغالاة ومفاخرة ومباهاة – وبالرغم من الخطوط الخاصة مع ايران إلا أننا كنّا على علم بالحركة وليس بنتائجها التي تبلغناها في الأيام الأخيرة على عكس جماعة الأميركان الذي يريدون تحرير لبنان من الاحتلال الإيراني!!

هذا الاتفاق هو خطة عمل روسية – صينية – إيرانية هدفها العمل مع السعودية لعدم انخراطها في أي مشاريع مناهضة لروسيا وايران في المنطقة مقابل ضمان مصالح الرياض وحفظ دورها وموقعها وتكريس مصالحها في المنطقة والجوار من باب التعاون والتفاهم وليس من باب التخاصم والتحارب.

الاتفاق خطوة ذكية للتخفيف من الضغط على روسيا التي يعمل الأميركيون على محاصرتها بكتلة معادية من قلب أوروبا تعيد الى الاذهان إحياء الستار الحديدي ولكن بشكل معكوس – أي ستار حديدي أميركي – غربي ضد روسيا ومحاصرتها لا بل دفعها الى ما وراء أوروبا في المرحلة المقبلة من خلال جعل القسم الأوروبي من روسيا منطقة محايدة أو منطقة عازلة أو منطقة ساخنة أيضًا وجعل حلف شمال الأطلسي هو الوصي على أوروبا والممسك بقرارها.

كما ان الاتفاق سيدفع بدول الخليج من الإمارات الى قطر الى البحرين الى عُمان الى الكويت لإعادة النظر باستراتيجياتها الأمنية والاقتصادية والسياسية من خلال تفريغ مروحة العلاقات بدلاً من التطبيع المباشر الأحادي مع إسرائيل ومن خلال التسليم باليد العليا والكلمة الأخيرة لواشنطن. وقد رأينا أن الإمارات – وفي نتيجة مباشرة للاتفاق – طلبت وقف صفقات الأسلحة مع أسرائيل.

ان الاتفاق جاء في لحظة مفصلية في أجندة الحرب الأوكرانية التي ستشهد في المرحلة الآتية مزيدًا من الاستقطاب بين روسيا وحلفائها وواشنطن وحلفائها وسيكون للسعودية دور بارز ومحوري في ظل أزمة الطاقة العالمية وارتفاع أسعار النفط وتقلص امدادات الغاز في أوروبا والعالم.

حتى الساعة نعتقد ان دوائر القرار في إسرائيل في أزمة ومصابون بالصداع والدوار جراء ما حصل. هذه ضربة وفشل ذريع لكل التقديرات الإسرائيلية في المنطقة وخاصة مع السعودية – حتى الساعة – والسياسة الخارجية الإسرائيلية وخصوصًا فشل الجدار الأمني العالي الذي حاول الإسرائيليون بناؤه فإذا بالصين تنقل سور الصين العظيم الى الشرق الأوسط وترفعه في وجه أميركا وحلفائها – وان كانت بكين لا تضع في حساباتها أية مشاكل مع إسرائيل التي ترتبط واياها بمشاريع بمليارات الدولارات!!

كان العالم يرى يومًا بعد يوم تحالفات وتركيبات وتجمّعات وجبهات ضد ايران في المنطقة. فجأة انقلب المشهد. جبهة واحدة غيّرت المعادلة وخربطت المشهد. الزحف الصيني لوقف التمدد الأميركي. إسرائيل كانت تخطط لمزيد من التطبيع وصولاً الى توقيع معاهدات سلام في الخليج – هذا التطبيع مستمر والعلاقة مع إسرائيل مستمرة من جهة الدول الخليجية لكن التريث بات ضروريًا الآن. والإمارات ودول الخليج سوف يتعاملون “بحكمة أكبر” مع المسألة وبتأن وتبصّر.

الاتفاق السعودي – الإيراني سوف ينعكس على العراق إيجابيًا خاصة وان العراق كان السبّاق والبادئ بفتح خطوط التواصل والاتصال بين الرياض وطهران والعراق سيكون نقطة اتفاق وليس نقطة افتراق من الآن فصاعدًا بين السعودية وايران. وهذا الأمر سيعطي العراق قوة دفع إضافية في المنطقة.

نحن نأمل الأفضل لكننا نتحسب للأسوأ. لا نعتقد في قراءتنا الأولية أن الأميركيين سوف يقبلون بالأمر الواقع. قد يتأثر الوضع الأمني في المنطقة من خلال استمرار الضربات على ايران وليس أي حرب مكشوفة لأن ثمنها سيكون مكلفًا على المنطقة. نحن نخشى ان تحصل قلاقل في داخل المملكة العربية السعودية تحت عنوان تحريك المتطرفين من الجزيرة العربية الى منطقة الحزيرة السورية على الحدود مع تركيا ولبنان، لن يكون استثناءً.

مقالات ذات صلة