ايران-السعودية: علاقات دبلوماسية أم تسوية؟
كما كان متوقعاً، تراوحت التقديرات حيال الاتفاق السعودي-الإيراني على استئناف العلاقات الدبلوماسية خلال شهرين، بين من يرى أو يتوقع صفقة وتنسيقاً في ساحات النزاع، وبين حصره في المجال الدبلوماسي فحسب. صحيح أن المسار ما زال في بداياته، وقد يتعرض للتخريب، لكن بالإمكان تحليل مداه واحتمالاته على مستويين: خطوات خفض التصعيد، والدور الصيني في الاتفاق.
على المستوى الأول، من الضروري تأكيد أن الاتفاق ليس سوى بداية، والعلاقات الدبلوماسية لا تعني نزع فتيل الأزمات بأسرها. ذاك أن قرار قطع العلاقات حصل في لحظة ذروة، ونتيجة اعتداء متظاهرين على السفارة السعودية في طهران واضرام النار فيها عام 2016، للاحتجاج على اعدام عشرات المعارضين بينهم الشيخ نمر النمر حينها. لكن العلاقات لم تكن في أفضل أحوالها، إذ سبقها بعام مقتل عشرات الإيرانيين في تدافع خلال أدائهم طقوس الحج، علاوة على اتهامات أميركية لإيران بالتخطيط لاغتيال السفير السعودي في واشنطن عادل الجبير عام 2011. لا تنفي عودة العلاقات الدبلوماسية احتمال استمرار التوترات بين البلدين.
لكن، في المقابل، شهدت السنوات السبع الماضية مستوى غير مسبوق من العنف والاستهداف على الأراضي السعودية نفسها، وخصوصاً الاعتداءات الصاروخية وبالمسيرات المتكررة من اليمن وغيره، وأهمها هجوم عام 2019 على منشآت شركة “أرامكو” السعودية.
هذا التصعيد بين البلدين أوجد ديناميات من الصعب عكسها سريعاً، بل المطلوب ادارتها. هل بالإمكان إيجاد حل دائم للحرب في اليمن؟ هذا يحتاج لمجهود طويل الأمد، والأرجح أن تعمل الأطراف المختلفة على إدارة الصراع بشكل أفضل مع الحفاظ على خريطة توزع النفوذ، على الطريقة السورية. هل تعكس السعودية مجهودها الإعلامي المضاد في الداخل الإيراني وقد تحول الى ورقة مهمة في يدها (إيران انترناشونال وغيرها)؟ كلا، لكن بإمكانها التخفيف من حدة الحملات الإعلامية.
المقصود هنا هو أن القطيعة الدبلوماسية ترافقت مع تصعيد غير مسبوق، وبالإمكان الجمع بين علاقات دبلوماسية، من جهة، وبين إدارة أفضل لساحات النزاع، من جهة ثانية. من الصعب أن يصل الطرفان إلى مجموعة تفاهمات دُفعة واحدة، والأرجح أن تتوالى هذه الخطوات بالقطعة في حال استمرار الإيجابية وفشل محاولات التخريب والضغط. حرب اليمن مفتاحية هنا. ولو توصل الطرفان الى هدنة طويلة وعملية سلمية بالحد الأدنى في اليمن لحفظ مصالح الطرفين، بالإمكان البناء عليها في مجالات أخرى من العلاقات.
في مقابل حرب اليمن، هناك الدور السعودي في العقوبات الأميركية ضد ايران، وتحديداً تعويض النقص في الأسواق حال سحب ايران منها. والتنسيق بين البلدين أساسي كذلك في حال عودة ايران إلى تصدير النفط، وهذا قد يحصل في سياق تفاهمات إيراني-أميركي (كذلك بالقطعة). إلا أن مثل هذه الخطوات قد لا تكون متسقة زمنياً، وبالتالي تحتاج الى ضمانات يثق فيها الطرفان حين حصولها.
وهنا يأتي الدور الصيني في الاتفاق، إذ أن بكين قادرة بفعل علاقاتها المتينة مع البلدين، على ضمان حسن سير العمل بما اتفق الطرفان عليه. الصين هي المنفذ الوحيد اليوم لإيران الى العالم، وتُمثل الوجهة الأساسية لمبيعات النفط والاستثمار في البنية التحية الإيرانية، وهي كانت الضامن الأساسي لتعاون طهران مع المجتمع الدولي في الملف النووي.
الصين أيضاً الشريكة التجارية الأولى للسعودية، كونها تستورد منها نفطاً ومشتقات نفطية بقيمة 87 مليار دولار (2021)، أي أكثر من الولايات المتحدة (25 ملياراً) والاتحاد الأوروبي (27 دولة، 53 ملياراً) مجتمعين. مثل هذا التحول حدث على مدى العقد الماضي، إذ انخفض الاعتماد الأميركي على النفط السعودي تدريجياً، من 62 ملياراً عام2011 إلى 25 ملياراً عام 2021، وهذا انعكس باهتمام أميركي أقل بالمنطقة نسبة لاعتمادها عليها في تأمين حاجاتها في مجال الطاقة.
في المقابل، ارتفعت الصادرات السعودية الى الصين، وأليس منطقياً أن ينعكس هذا الاعتماد في السياسة، وتحديداً تأمين استقرار أكبر على غرار ذلك الذي فرضته السياسة الأميركية حين كانت واشنطن تعتمد على نفط المنطقة؟ وهذا غير منفصل كذلك عن تبدل استراتيجية الصين في السياسة الخارجية، والتي عبر عنها الرئيس شي جين بينغ في خطابه الأخير. الصين ستنتقل من السياسة التي وضعها الرئيس دنغ شياوبنغ، وشعارها إخفاء القدرات والاعتماد على عامل الوقت، إلى سياسة شي جين بينغ القاضية بالجرأة على التحدي ومراكمة الانجازات. بكلام آخر، ستنتقل الصين من طور سياسة منكفئة تُركز على تنمية العلاقات الاقتصادية والتجارية، إلى أخرى تُعزز فيها الموقع السياسي بالتوازي مع التنمية الاقتصادية.
نجاح هذا الإطار أساسي في المرحلة المقبلة، لكنه يربط العلاقات السعودية-الإيرانية بالسياسة الصينية، وبالتالي سيتأثر استقرارها كذلك بمنسوب المنازلة بين بكين وواشنطن. ستكون السعودية في موقف صعب في حال وصول إدارة جمهورية الى البيت الأبيض، وعلى رأس أولوياتها التصعيد مع إيران والصين، ولكن الرياض أثبتت المرة تلو الأخرى خلال السنوات الماضية قدرتها على التمايز والمفاضلة بين مصلحتها وإرادة واشنطن.
يبقى أن احتمالات نجاح هذا الاتفاق والبناء عليه لمزيد من الاستقرار، يعتمد على دينامية ودور صينيين لم نعهدهما بعد، وبالتالي هما أيضاً قيد الاختبار في نزاع ومنطقة أقل ما يُقال فيها إنها شديدة التعقيد. نحن أمام مرحلة جديدة، صحيح، لكنها سائلة ودون استقرارها خطوات أكبر بكثير من مجرد استئناف للعلاقات الدبلوماسية.
المدن