حل موضوع الفراغ الرئاسي بعد”اتفاق بكين” : قلق “سياديّ” وابتسامات باريسيّة!
سوف يُسكب حبر كثير على تحليل أبعاد ونتائج وآثار وتداعيات “اتفاق بكين” الذي توصّلت إليه المملكة العربيّة السعوديّة والجمهورية الإسلامية في إيران برعاية جمهورية الصين الشعبيّة، وذلك لأسباب كثيرة منها ما يتصل بالتنافس على الريادة العالمية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، ومنها ما يتمدّد الى الإنعكاسات على طموحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في التطبيع مع الرياض، ومنها ما يرتبط بسياسة الطاقة التي تثير اهتمام العالم، ومنها ما ينعكس مباشرة على الاتفاق النووي الذي وقف الصراع الإقليمي وراء بعض أسباب تعطيله، ومنها ما يتعلّق بالتغييرات الحاصلة ضمن النظام الإيراني نفسه حيث علت كلمة “الانفتاح” على صوت “التشدّد” تحت وطأة أقوى أزمة اقتصاديّة وشعبية، ومنها ما يتمحور حول تبريد النقاط الساخنة في الشرق الأوسط حيث ميدان المواجهة غير المباشرة بين الرياض وطهران.
وممّا لا شكّ فيه أنّ الشعوب اللبنانيّة والسوريّة والعراقيّة واليمنيّة، نظرًا لأوضاعها المأساويّة، تهتم بالنقطة الأخيرة، أي بانعكاسات “اتفاق بكين” عليها وعلى أقاليمها الوطنية وعلى أوضاعها الأمنية والمالية والاقتصادية والسياسيّة.
وممّا لا شكّ فيه أنّ اليمنيّين كانوا أوّل من حصد ثمار دخول المفاوضات الإيرانيّة –السعوديّة “المرحلة النهائيّة”، إذ إنّ الحوثيّين، وهم في التقييم العالمي من أذرع إيران في الإقليم، وما إن ظهرت بوادر إيجابية في بكين، حتى سارعوا الى رفع الحصار عن تعز، المدينة الأكثر سكافة سكانيًّة في اليمن، بعدما كانوا قد أفشلوا، على مدى سنوات طويلة، كلّ المحاولات الإقليمية والدولية والأمميّة الرامية الى ذلك.
وليس تفصيلًا مملًّا لفت الإنتباه الى أنّ أوّل قافلة تدخل الى تعز، لحقت بساعات قليلة، الإعلان عن “اتفاق بكين” بالتزامن مع الإعلان عن التوصّل الى حلّ لمشكلة الناقلة “صافر” التي تهدّد البحر الأحمر بكارثة بيئيّة كبيرة.
ومن شأن “اتفاق بكين” أن ينعكس إيجابًا على النظام السوري الذي سبق أن سلّمت دول الخليج ب”نجاته”، ممّا يسرّع في خطوات “التطبيع” معه، بعدما كانت الرياض قد مهّدت لها، على إثر التوافق مع الصين على موعد انطلاق المفاوضات النهائيّة مع إيران التي لها نفوذ قوي في سوريا.
وما يصح على اليمن وسوريا، لا بدّ ممن أن يصحّ على لبنان أيضًا، ولكن كيف وعلى حساب مَنْ ولمصلحة مَنْ؟
لنعود الى الوراء قليلًا، لقد بدأ تدهور العلاقات اللبنانيّة-السعودية على إثر تدهور العلاقات الإيرانيّة-السعودية، وتحديدًا عندما رفض لبنان، في اجتماع جامعة الدول العربيّة، إدانة الهجوم الإيراني على منشآت مدنية في السعوديّة.
وقد تفاقمت الأوضاع، يومًا بعد يوم مع دخول “حزب الله” وأتباعه في الحرب الإيرانيّة على السعوديّة، سواء في اليمن أو في “عدوان المخدرات” أو في “الإعلام المعادي” الذي أوجد له الحزب تجمّعًا في الضاحية الجنوبية لبيروت، وسط عجز الدولة اللبنانيّة عن تشريف تعهّداتها بالتضامن العربي-العربي، من جهة وبالنأي بالنفس عن صراعات المحاور، من جهة أخرى.
وفي هذه الفترة، ومع دخول عبارات جديدة على الأدبيات السياسيّة اللبنانية مثل “الاحتلال الإيراني للبنان”، تيقّنت الأسواق أنّ “الغطاء السعودي” الذي كان يوفّر نوعًا من الضمانة للاقتصاد اللبناني قد رُفع، فهربت رؤوس الأموال وتوقّفت الاستثمارات الإنتاجيّة والريعيّة، ووُضعت شروط على المجتمع السياسي أكبر من قدراته، بحيث بات عليه، ليس أن يُصلح دولة فاسدة من جذورها، فحسب بل أن يطبّق القرارات الدولية التي تتمحور حول نزع سلاح “حزب الله” أيضًا.
وانقسم لبنان الى لبنانين: الأوّل يقوده “حزب الله” بيد من حديد والثاني مشرذم ويتوزّع على قيادات عدة ولا تجمعه سوى قناعته بأنّ لا نجاة للبنان إلا برفع يد “حزب الله” عن القرار الوطني.
وانسحب هذا الانقسام على الانتخابات الرئاسيّة العالقة في فراغ ممتد منذ الحادي والثلاثين من تشرين الأوّل(أكتوبر) 2022.
انطلاقًا من هذه اللمحة السريعة لما وصلت إليه الحال في لبنان، كنتيجة لدخول إيران والسعوديّة في “حرب شبه حامية”، ماذا يمكن أن يتغيّر مع خروج إيران والسعودية من الصراع الى التعاون الذي يشمل، وفق اتفاق بكين، كل أوجه العلاقات “الحميمة”؟
الجواب البديهي أنّ الأمور لا بدّ من أن تعود الى ما كانت عليه قبل العام 2017، مع وجود متغيّر لا يصب لمصلحة “دعاة تحرير لبنان من الاحتلال الإيراني”، إذ إنّه، في تلك المرحلة لم تكن هناك خطط تطبيعيّة مع النظام السوري، ولم تكن لبكين كلمة وازنة في المنطقة ولم يكن لموسكو حضور فاعل فيها.
فهل يعني ذلك، أنّ السعوديّة يمكن أن تتهاون في لبنان، وهي التي بدأت تقطف في “عمقها الإستراتيجي”، أي اليمن والبحر الأحمر ممّا ينعكس إيجابًا لمصلحة طموحاتها التنمويّة والترفيهية والتجارية والإقتصادية والصناعية؟
و”التهاون” يعني هنا أنّها لن تكتفي بعدم وضع “فيتو” على مرشّح يميل الى “محور الممانعة” بل لن ترفع “سلاح الحَرَد” ضد لبنان.
وفي هذا السياق، ليس تفصيلًا نافلًا الإعلان عن اجتماع انعقد في باريس، أمس بين وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان مع المسؤول عن الملف اللبناني في الرئاسة الفرنسيّة باتريك دوريل، إذ إنّ باريس تحمل مشروع تسوية للبنان يعكس بأمانة المصالحة الإيرانيّة-السعوديّة، بحيث يأتي رئيس للجمهوريّة يريح “حزب الله” في مقابل الاتفاق على رئيس حكومة يريح خصوم “حزب الله”.
قبل “اتفاق بكين” لم تكن السعودية في هذا الوارد، ولم يتمكّن دوريل من الوصول الى مستوى ابن فرحان، بل بقي على تواصل مع مستويات “أدنى”، ولكن، في يوم إعلان هذا الاتفاق وجد نفسه في جناحه حيث جرى الترحيب الحار به، بوجود المصوّرين الرسميّين السعوديّين الذين التقطوا صورًا معبّرة جدًّا.
وهذا الحبور السعودي بباتريك دوريل يترجم، وفق مصادر دبلوماسية في موسكو، اتجاهات البحث في ملف اللبناني مع المسؤولين الروس الذين يبدون حماسة لافتة لمصلحة رئيس “تيّار المردة” سليمان فرنجيّة.
وهذا يعني أنّ إمكان حل موضوع الفراغ الرئاسي دخل في مرحلة جدّية للغاية.
وعليه كيف ستكون مواقف الأطراف اللبنانيّة؟
“الثنائي الشيعي” سوف يتمسّك بمرشحه فرنجية، من دون أدنى شك، لأنّه يُريّحه ولا يعتقد بأنّه يتعب السعوديّة.
المجموعة النيابيّة السنيّة التي تضع نفسها في موقع “الإعتدال”، وفي حال وجدت “تهاونًا” سعوديًّا، سوف تدعم فرنجية.
نواب التغيير لن يساهموا بأكثريّتهم الساحقة في تعطيل النصاب.
القوى المسيحيّة سوف تجد نفسها أمام خيار من إثنين، إمّا أن تتوحّد لتتمكّن من المواجهة، وسوف تكون مكلفة جدًّا، أو تذهب الى الانتخابات منقسمة، فيقاطع من يقاطع ويرفض مرشح “الثنائي الشيعي” من يرفضه.
“الحزب التقدمي الإشتراكي” لن يقف، في حال سقطت الفيتوات، ضد “حلف الوئام” الذي يربطه برئيس مجلس النواب نبيه برّي.
وبالنتيجة، ومهما كانت عليه التوجّهات ، فإنّ “اتفاق بكين” الذي حرّك الجمود في المنطقة لن يعصى عليه جمود لبنان!
فارس خشان- النهار العربي