المقامرة ببلد كامل: في محاضر دبلوماسيّي بيروت…لا للطائف الإيرانيّ… وتواطؤ جعجع وباسيل!
إنّه “الطائف الإيراني”. يريدون فرضه علينا. ولن نقبل.
هذا الكلام، قيل إنّ أكثر من شخصية دبلوماسية غربية سمعته من أكثر من قيادي معارض، بعد إعلان “حزب الله” ترشيح سليمان فرنجية.
حيثيات الكلام أكثر وأخطر. قُدّم للدبلوماسيين شرح مفصّل لما يسمّيه المعارضون أمراً واقعاً مفروضاً على البلد:
الطائف السوري قام على دم رينيه معوّض واغتياله. الطائف الإيراني جاء نتيجة اغتيال رفيق الحريري ودمه.
لكنّ ظروفاً كثيرة تغيّرت ومعادلات أساسية تبدّلت، كما قيل للشخصيات الدبلوماسية.
انقلاب السياقات
طائف دمشق في بيروت تكرّس فوق هزيمة لبنانية داخلية بعد حروب تدميرية. ثمّ جاء التقاطع الأميركي السوري عقب اجتياح صدّام للكويت. وأخيراً أكمله حلم واشنطن أو وهمها بسلام الشرق الأوسط ومحاباة الأسد في المسألتين: في حرب الخليج وفي مشروع مدريد. كلّ ذلك فيما موسكو السوفياتية تندثر والأميركي يكتب نهاية التاريخ.
اليوم هذه السياقات انقلبت كلّها: المعارضة اللبنانية للطائف الإيراني تضمّ غالبية اللبنانيين وتشمل أكثرية واضحة داخل غالبية جماعات الوطن. سوريا، وإيران خلفها، لا أوهام لديكم تجاههما ولا سلام عندهما لكم. العرب موقفهم واضح وصلب معنا. حرب أوكرانيا وصعود الصين أعادا لدى الجميع صورة العالم المتعدّد الأقطاب ورهانات الحرب الباردة الجديدة. مشهد كامل جديد يجعل منهم أضعف بكثير من معسكرهم سنة 1990 والعكس في معسكرنا… فلا يهوّلنّ أحد علينا.
أمّا ماذا عن مضمون “الطائف الإيراني” وطبيعته؟ فكانت للمعارضين مطوّلات: فلنأخذ أحداث السنة الماضية وحدها، وما رافقها من استحقاقات لتكوين السلطة: الانتخابات النيابية كانت أكبر عملية تزوير بالقانون والإدارة وبالترهيب على الأرض. لا لزوم لكلام كثير. راجعوا أنتم تقريركم الذي أعدّته بعثة الاتحاد الأوروبي عن عمليات الاقتراع في مناطق سيطرة “الحزب”…
هذه خطوة تأسيسية لإعادة تكوين السلطة، وأدوها وشوّهوها. بعدها وصلنا إلى تشكيل الحكومة. وهو تشكيل مشوّه حتماً لأنّه سيستند إلى نتائج الانتخابات. لكنهم هنا أيضاً فرضوا شكلها ومكوّناتها ومضمونها. وصولاً إلى البلطجة العلنية داخلها. يكفي استذكار تظاهرتهم المسلّحة على قصر العدل وكلام “مثقّفيهم” على طاولة مجلس الوزراء بالذات…
مرشّحنا أو لا رئاسة
الآن وصلوا إلى رئاسة الجمهورية، يقولون لنا: مرشّحنا أو لا رئاسة.
المسألة ليست ضدّ سليمان فرنجية. فالرجل معروفة صفاته وإمكاناته. لكن معروف أيضاً تموضعه وأدبيّاته وقناعاته.
والتجربة التي يحاولون خداعكم بها، لتمرير خداعنا، جرّبناها قبل سبعة أعوام. وجرّبناها بنسختها الأصلية: تسوية عون – الحريري. كان الرجلان يمثّلان أكثريّتين كبيرتين في بيئتَيهما. وكانت استقلاليّتهما عن المحاور الإقليمية أكبر بكثير من أيّ هامش متروك لأسماء مسرحيّة 2023. وكان حولهما التفاف داخلي ساحق. ودعم خارجي كبير… فانتهت بأن استهلكها “الحزب” وطحنها وهضمها وقضى على طرفَيها. أيّ كلام عن تسوية مماثلة اليوم تبدو “تايوانية” تجاه تسوية 2016. فما عجِز ميشال عون بكلّ قوته وسعد الحريري بكلّ شرعيّته عن نيله لصالح البلد، كيف لأيّ بديلين منطلقين من عُشر قوّتهما أن يحقّقاه؟! إسألوا جبران باسيل. لديه الجواب الشافي عن كلّ مأساة “بناء الدولة” بمفهومهم وتفاهمهم…
باختصار يريدون كلّ مؤسسات البلد، وكلّ البلد، مقابل أيّ نتيجة؟ مقابل انهيار كامل وهجرة شبابنا وعزلة وطننا عن محيطه والعالم. وإقناعنا بالرضوخ لدولة فلسفتها الاقتصادية تقوم بين صرّافي الدرّاجات وتجارة الشيكات وترانزيت الممنوعات…
أمّا عن الحسابات الواقعية فلا “يهبّط” أحد عليكم وعلينا جدران الوهم. هذا تاريخ برّي في الاستحقاقات نعرفه. لا أرنب واحداً فيه. بدأه سنة 1995 ضدّ التمديد للهراوي، فحصل التمديد. سنة 1998 لم يكن لحّود خياره. فانتُخب لحّود. سنة 2004 كان ضدّ التمديد للحّود. فحصل التمديد. وصولاً إلى وقوفه سنة 2016 ضدّ عون فانتُخب عون… لذا كلّ اللعبة مكشوفة ولا ورقة مستورة على الطاولة…
ختم المعارضون عرضهم المشوّق للدبلوماسيين الغربيين: لا تعذّبوا أنفسكم في التحليل والمحاولة. لن نقبل. ولا يهوّلوا عليكم ولا علينا. لن نمشي بمرشّحهم. وليكن ما يكون.
أوهام العودة إلى ما قبل الطائف
في المقلب الآخر من المشهد سمع الدبلوماسيون أنفسهم أو عبر مترجميهم، كلاماً يرسم صورة معاكسة:
ليس بسيطاً ما يفعله أصحاب أوهام العودة إلى ما قبل الطائف. تكفي جردة سريعة. سعد الحريري قالوا إنّهم حلفاؤه. بعضهم منذ 2005 وبعضهم الآخر منذ 2016. لكنّهم انتهوا بأن نجحوا بتصفيته سياسياً. فشطبوا زعيم أولى الجماعات المؤسّسة لنظام الطائف. وعن عمد وقصد. إسألوا إيلي الفرزلي فهو شاهد على نقاشاتهم حول الرجل وهو ضحيّتها في آن.
وليد جنبلاط انقسموا حول العلاقة معه. ثمّ تقلّبوا في أدوارهم حياله. حيناً يكون جعجع حليفه حتى اللوائح المشتركة، وباسيل عدوّه حتى “قبر- شمون”. وحيناً آخر يصير جعجع مقاطعاً له وباسيل محاوراً. لكن في الخلاصة اتفقا على إفقاد زعيم المختارة دوره الوسطي وحجمه القادر على المبادرة والوصل وطرح التسويات. ولو قُدّر لهم لحوّلوه إلى طاشناق آخر، لولا عناية الانتخابات الأخيرة.
الآن وصلوا إلى الموقع الشيعي. حاصروا المجلس ثمّ أقفلوه. أوصدوا بابه في دوره الانتخابي ثمّ في دوره التشريعي. وأخيراً عطّلوا حتى قاعته الموازية عبر اللجان، بعدما منعوا عنه فكرة تحويله منبراً حتى للحوار. فماذا بقي للموقع الشيعي الأول في الدولة؟ ماذا “يشتغل” نبيه برّي بعدها؟ وهل يتوقّعون السكوت حيال كلّ ذلك؟ كان الجواب نعم لترشيح فرنجية. وترشيحه ضدّهما معاً لكسرهما معاً ولكسر من خلفهما.
ومسألة هذا الترشيح ليست مناورة. يعتقدون أنّهم قادرون على الفوز في لعبة عضّ الأصابع؟ فليجرّبوا. ستّة أشهر كانت كافية لنقل وليد جنبلاط من تأييد مرشّحهم إلى تساجله معه. نعرف تماماً أنّ تيمور موقفه مختلف، وأنّه اتّصل واستنكر وجدّد صلابة تموضعه معهم. لكن فلننتظر ستّة أشهر أخرى ونعود بعدها إلى الحسبة.
المجموعة السنّيّة يتّكلون على السعودية لإقناعها. لكن نحن أيضاً قادرون على إقناع قسم منها. حتى داخل تكتّل باسيل لدينا من يعمل ليل نهار بكلّ ما أوتي من “إمكانات” وبهلوانيات… بكلّ الأحوال يريدون مبارزتنا في لعبة الفراغ، فليجرّبوا. جرّبوها سنة 1990 ثمّ سنة 2007 وصولاً إلى سنة 2014. وفي المرّات الثلاث خسروها وخسّروا ناسهم. فليجرّبوا مرّة رابعة…
بين المنطقين تعطّلت لغة الدبلوماسيين. بعضهم يتساءل عن مدى صحّة هذا الكلام ودقّة نيّات من يعلنه.
هل يعقل أن تتمّ المقامرة ببلد كامل على هذا النحو؟ أم هناك احتمال لأن تكون المبارزة برمّتها مسرحية أخرى يلعبها الجميع لتخدير شعب قتلوه مراراً، ويريدون منه اليوم تجديد ولائه لهم، عبر غرائزية مذهبيات واصطفافات مفبركة وملفّقة؟
بعض الدبلوماسيين المستمعين بدأ يكتشف ويفهم بعداً آخر لشعار 17 تشرين “كلّن يعني كلّن”.
جان عزيز- اساس