دبلوماسية السَّدوِ السعوديّة: الرواية الكاملة لتغريدة السفير البخاري!
أطلق السفير السعودي في لبنان وليد البخاري دبلوماسية السَّدوِ السعوديّة. والسدو للتذكير هو النسج على الطراز الأفقي لوبر الجِمال. والهدف من السدو هو الوقاية من حرارة شمس الصحراء في النهار وصقيعها في الليل. تستند الدبلوماسية السعودية إلى الفلسفة الرمزية في السياسة، وهو ما يظهر في مواقف وتغريدات السفير البخاري.
دبلوماسية الفلسفة الرمزيّة
التغريدة الأخيرة هي تعبير عن خطاب دبلوماسي يتبنّى مدرسة الفلسفة الرمزية في الإعلام السياسي الجديد. وهذا الخطاب الدبلوماسي المعاصر يعتمد على إظهار مواقف من دون أن يتبنّاها النصّ، وبالتالي فإنّ التغريدة هي استدعاء نصّ من الموروث الثقافي أو السياسي وإسقاطه على الواقع لقراءة ردود الأفعال من كلّ الاتّجاهات.
نصّ التغريدة هو امتداد لتغريدة الأمل. والأمل في الخطاب السياسي يقوم على توظيف الشيء بدون واقع ملموس، وبالتالي كلّ هذه الطروحات لا تحقّق أيّ نتيجة، ولا تتطابق مع ما اتُّفق عليه في اجتماع باريس. والتغريدة الأخيرة حول الساكنين تتحدّث عن معضلة واجهت علماء اللغة عندما يلتقي ساكنان، فتمّ الوصول إلى حلّ يوجب حذف الساكن الأوّل في حال كان معتلّاً، وهو ما ينطبق على من يصيبه اعتلال سياسي في ترجمة الموقف بالرسالة، وتحريكه إذا كان الثاني تتوافر فيه المعايير المطلوبة.
التفسير السياسيّ للتغريدة
التفسير السياسي لهذا الكلام ينسحب بوضوح على الساكن الأول، وهو رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، المرشّح لرئاسة الجمهورية المدعوم من حزب الله وحركة أمل. وهذا بحدّ ذاته اعتلال سياسي لأنّه محسوب على طرف سياسي ويشكّل استفزازاً للآخرين، ولذا لا بدّ من حذفه. أمّا الساكن الثاني فبقي ملتبساً عن قصد، إذ يمكن أن ينطبق التفسير على قائد الجيش كمرشّح توافقي أو في حال بقي التعثّر قائماً فيمكن الذهاب إلى البحث عن مرشّح آخر. يبقى الأهمّ الهدف والغاية اللذان يتعلّقان بإنقاذ لبنان وليس بالمصلحة السياسية المرتبطة بالأشخاص.
بالنسبة إلى الحركة السعودية فإنّ معالجة الأزمات تنطلق من استعادة ثقة المجتمع الدولي، وتأطير الخطاب الداخلي بما يتطابق مع المصلحة اللبنانية، وهذا يُبنى من خلال تحديد أطر وهويّة الرئاسات، لذلك المسألة لا تتعلّق بالأشخاص في مراحل الأزمات، بل المهمّ التركيز على توفير السياسات الضامنة. وهذه السياسات هي التي كانت حاضرة في كلّ اللقاءات الدولية الخاصة بلبنان، وآخرها اجتماع باريس الذي يأتي نتاج ما أرسته دبلوماسية السدو التي وفّرت سلسلة مظلّات للموقف السعودي تجاه الملفّ اللبناني.
سلسلة مظلّات
بدأت تتوافر هذه المظلّات من خلال القمّة الفرنسية السعودية خلال لقاء وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ثمّ المبادرة الخليجية، ثمّ لقاء نيويورك الثلاثي بين أميركا وفرنسا والسعودية، وأخيراً التنسيق السعودي مع مصر وقطر. وهو ما نجحت السعودية في تكريسه في هذه اللقاءات. وقد جاء الموقف السعودي بعد تتبّع كلّ هواجس القوى السياسية، وعلى أساس المعايير التي اختيرت بناءً على مقترحات اللبنانيين، إذ لا بدّ من مراعاة الجميع. في هذا الإطار تقول مصادر متابعة إنّ رئيس مجلس النواب نبيه برّي كان يرفض انتخاب رئيس تحدٍّ، فكيف يمكنه طرح رئيس تحدٍّ بالنسبة إلى الآخرين، فيما ليس الهدف الدخول في مواجهات أو خلق جبهات؟! وتقول المصادر: “لا بدّ من اختيار رئيس يمتلك رؤية اقتصادية للتعاطي مع برنامج الإنقاذ والتعاطي مع المنظّمات الدولية ذات الصلة، ولا يمكن اختيار رئيس للجمهورية لا يكون قادراً على ذلك”.
من هنا يتجلّى بوضوح الموقف السعودي الذي أبلغته المملكة لمختلف الأطراف الداخلية والخارجية، وهو ما يقوم به السفير السعودي من خلال حركته التي أطلقها. ويرتكز الموقف بوضوح على عدم إمكان دعم أيّ شخصية سياسية انخرطت في الفساد السياسي. وتنطلق المملكة من موقف لا مجال للتنازل عنه، فالمطلوب رئيس سيادي توافقي معتدل. ويُفترض بهذا الرئيس أن يتماهى في معاييره مع هويّة رئيس حكومة له موثوقية دولية ومحلية على قاعدة النزاهة والكفاءة. وبعيداً عن كلّ المزايدات السياسية، عملت السعودية على نسج السدو لنسج هذه المظلّات من أجل توفير شبكة أمان دولية للبنان حتى يحدّد اللبنانيون أنفسهم خياراتهم السياسية بمعزل عن أيّ أجندات خارجية تُفرض عليهم، وتكون خياراتهم مبنيّة على أساس مصلحتهم ومواجهة التحدّيات والمخاطر التي تهدّد أمن واستقرار لبنان. واجتماع باريس الخماسي كان نتاجاً لكلّ هذه المظلّات ولإطلاق آلية التنفيذ.
الطرح الفرنسيّ
أمّا الطرح الفرنسي وفق السيناريو الذي تمّ تسريبه أخيراً عن مقايضة رئاسة الجمهورية لحليف لحزب الله برئاسة الحكومة لخصومه، أي معادلة سليمان فرنجية مقابل نواف سلام، فهو لم يكن يوماً خياراً للقوى الدولية، بل كان خيار حزب الله منذ أشهر، وتبنّاه الرئيس نبيه بري، ولذا لا يمكن لأيّ دولة أن تتبنّى هذا السيناريو الذي يطرحه حزب الله لأنّ هذا الطرح يتناقض مع الميثاقية المسيحية، ومع ما اتفقت عليه الدول في باريس، ويعيد إحياء منطق الاصطفاف السياسي.
تضيف وجهة النظر هذه أنّ طرح نصر الله دعم فرنجية يمكن أن يسهم في قطع الطريق عليه، لأنّ فرنجية لم يترشّح، وبالتالي كيف يطرح نصر الله دعم ترشيحه وهو لم يترشّح؟! وبذلك يكون نصر الله هو من رشّحه، وهذا يعني محاولة فرض مرشّح على المسيحيين. هذا السيناريو هو امتداد استراتيجي لسيناريو عام 2016، ولذلك لا يمكن توقّع نتائج مختلفة لنفس الآليّات. وهنا تشير المعلومات إلى أنّ السعودية حريصة على الاتفاق على البرنامج لعدم تكرار نتائج خيارات سياسية سابقة.
الموقف السعوديّ
عملياً، يمكن تلخيص الموقف السعودي بما يلي:
إنّ الأزمات تتطلّب أن يكون هناك رئيس يقوم بمهمّة إنقاذ وليس مهمّة تحدٍّ وفتح الباب أمام انتقامات سياسية وملاحقات أمنية. ولا بدّ من الذهاب إلى اختيار اسم يستعيد ثقة المجتمع الدولي، وتتوافر فيه مقوّمات السيادة والإصلاح. وهناك ثبات سياسي سعودي على هذا الموقف والمعايير، بغضّ النظر عن الأشخاص والأسماء. أمّا الهدف من إطلاق هذه الحركة فهو تحريك الاستحقاق بشكل جادّ. وفي حال كان هناك إصرار على مرشّح معيّن له صفة سياسية، فإنّ المملكة ستعمل وفق مصالحها، ومن حقّها أن تقوِّم الخيارات، وهي لا تريد أن تفرض شيئاً على اللبنانيين، لكن على المسؤولين أن يتحمّلوا حينئذٍ نتيجة خياراتهم. وفي حال كان خيار فرنجية هو الخيار النهائي، فليكن، لكنّ للسعودية حقّ اتخاذ القرار الذي تراه مناسباً، فهي لا تعلي أيّ خيار على مصالحها وثوابتها. وهذا الموقف أبلغه السفير السعودي للسفيرة الفرنسية في لقاء جمعهما يوم الإثنين الفائت، أي قبل زيارتها رئيس مجلس النواب.
أمّا مراهنات بعض اللبنانيين على حصول تطوّرات خارجية تغيِّر الموقف من فرنجية، فهي جزء من قراءة قاصرة، وخاصة لدى من يراهن على تطوّر سريع في العلاقات السعودية السورية. فلم يحدث أيّ تطوّر ولا يوجد أيّ مسار سياسي سعودي جدّي تجاه النظام السوري، ويجب عدم ترجمة الموقف الإنساني بطريقة خاطئة أو البناء على أوهام سياسية. فمن يراهن على دور للنظام السوري ينعكس إيجاباً على ترشيح فرنجية، فهو يخطئ الحساب، إذ لا يمكن لرئيس لا يستطيع الخروج من قصره بدون ضمانة قاآني والحرس الثوري الإيراني أن يتدخّل في لبنان أو أن يؤثّر فيه. كذلك لا يمكن إغفال حاجة سوريا إلى إصلاح سياسي كبير، وخاصة أنّ النظام السوري يتحمّل جزءاً من الأزمة اللبنانية، لأنّ لبنان يستورد لدولتين وتنشط فيه الحركة لصالح الاقتصادين اللبناني والسوري، إضافة إلى تهريب المحروقات والدولارات وغيرها لصالح النظام الذي يرتكز على تهريب المخدّرات للبقاء.
خالد البواب- اساس