الأشهر المقبلة الأكثر سوءاً على لبنان: واشنطن تدفع إلى الانهيار فيستثمره «الحزب»!
كل أحاديث التسويات في الوقت الحاضر هي مجرد أوهام. فالانهيار سيزداد حدَّة، يوماً بعد يوم، لأنّه مطلوب لتأدية أكثر من وظيفة سياسية. ولذلك، ستكون الأشهر المقبلة من الأكثر سوءاً على لبنان.
من السذاجة الاعتقاد أنّ الانهيار اللبناني هو فقط مجرد نتيجة «تقنيّة» لفساد الطاقم السياسي، ولقيام هذا الطاقم بنهب أموال الدولة على مدى عشرات السنين. فهذا النهب كان مستمراً منذ عشرات السنين، وبمباركة القوى الخارجية، لكن لحظةً سياسية معينة تمّ اختيارها لتفجير الأزمة.
في مطلع تسعينات القرن الفائت، أطلق الرئيس الياس الهراوي على الدولة اللبنانية وصف «البقرة الحلوب التي جفّ ضرعها». لكن طاقم السلطة العتيق في إدارة عمليات النهب، منذ ذلك الحين، أبقى الدولة على قيد الحياة- شكلاً على الأقل- إلى أن سقطت دفعة واحدة في العام 2019.
فعشية اندلاع انتفاضة 17 تشرين الأول، كان طاقم السلطة والمال يحاول إخفاء الواقع وتجميله. ومنذ العام 2017، حاول تجنّب الانهيار باستدرار مساعدات طارئة من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، وقد بذل أقصى الجهود لتحصيل مليارات إضافية من خلال الصديق الفرنسي إيمانويل ماكرون ومؤتمر «سيدر». لكنه فوجئ بأنّ الأميركيين والسعوديين أقفلوا «الحنفية».
وقبيل الانهيار، طلب هذا الطاقم من الرئيس سعد الحريري أن يقوم بجولة أوروبية- خليجية لتحصيل ما أمكن من أموال، ولكن عبثاً. وقبل أسبوع من 17 تشرين، تعرّض الحريري لصدمة غير مألوفة عندما «تسرَّع» اللبنانيون وأشاعوا أخباراً مفادها أنّ الإمارات وافقت، نتيجة زيارته، على أن تدعم لبنان بوديعة ربما تقارب المليار دولار، توضع في حساب مصرف لبنان. لكن الإماراتيين طلبوا من الحريري نفي الخبر فوراً، ففعل. وكانت تلك دلالة مؤكّدة إلى أنّ «الزمن الأول تْحوَّل» بين لبنان والخليج.
ما الذي حدث في تلك الفترة، حتى اتخذت القوى العربية والدولية قرارها بوقف دعمها للبنان، فأتاحت انهياره مالياً واقتصادياً وسياسياً؟
على مدى عشرات السنين، بقي طاقم السلطة يمسك بالبلد، ويمارس عمليات النهب من المال العام. ومع أنّ القوى العربية والدولية المعنية بالوضع اللبناني كانت تعرف ذلك، فقد سمحت بتدفق المساعدات إلى لبنان. وإذ بقي الدين العام ينمو من بضعة مليارات من الدولارات في أوائل حكومات الطائف، وتضاعف مراراً، فإنّ القوى الخارجية بقيت تمدّ لبنان بالمساعدات، مع علمها المسبق أنّ الدولة اللبنانية ستكون عاجزة عن تسديد دينها العام الذي قارب الـ100 مليار دولار.
ولفترات طويلة، كانت القوى الخارجية تتعاون مع الطاقم الممسك بالسلطة، مع علمها أنّه ينهب المال العام ويقود الدولة إلى انهيار كبير جداً، بل باركت قوانين الانتخاب التي ابتكرها لتجديد السلطة لنفسه. وتدفقت على لبنان المساعدات الخارجية، فيما النافذون من قوى السلطة والمال كانوا يخترعون الهندسات لتغطية الانهيار موقتاً وتؤجّل الانفجار.
بدءاً من العام 2017، مع تولّي دونالد ترامب مقاليد السلطة في البيت الأبيض، جرى تشديد العقوبات على حلفاء إيران في لبنان وقطع المساعدات عن الدولة التي يمسكون بها. والتقت هذه الرؤية مع نهج ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، فكانت «كلمة السرّ» الخارجية: دعوا اللبنانيين يحلّون مشكلتهم بأنفسهم مع «حزب الله».
في هذه المناخات، انفجرت انتفاضة 17 تشرين، وسرعان ما اكتشفت أنّ صدامها الأقوى هو مع «حزب الله»، وأنّها قادرة على إسقاط جميع أركان السلطة لولا أنّهم مدعومون من «الحزب». كما أنّ هذه الانتفاضة بدت عاجزة عن إحداث أي تغيير في السياسة أو الإدارة أو القضاء إذا لم يحظَ بموافقته. وفي النهاية، فشلت الانتفاضة وكرّس «الحزب» مزيداً من النفوذ. وإذ تمّ قطع المساعدات عن الدولة اللبنانية وتشديد العقوبات عليها، تحت عنوان الضغط لإضعاف «حزب الله»، فقد دخل البلد بمؤسساته وقطاعاته المالية والمصرفية في منزلق خطر جداً.
ويوماً بعد يوم، يتعمّق هذا الانهيار ويقود سريعاً إلى الفوضى والتفكّك. وفي المقابل، يبدو «الحزب» متماسكاً وقادراً على الاستمرار بمؤسساته وقواه الخاصة، وسط حال من الضعف تصيب الجميع. وفي شكل متعاكس، يزداد البلد انهياراً و»الحزب» تماسكاً، حتى أصبح وحده القادر على الفعل، فيما يتلاشى الآخرون.
في معنى آخر، تبدو صورة الانهيار «سوريالية» في لبنان. فالولايات المتحدة تدفع في اتجاهه، سعياً إلى إلحاق الهزيمة بـ«حزب الله» وإيران في لبنان والشرق الأوسط، فيما «الحزب» يجد فيه مادة استثمارٍ تسمح له بأن يكون الأقوى. واليوم، هو الوحيد الواقف على قدميه، فيما يتلاشى الآخرون جميعاً على الأرض.
على رغم ذلك، لا الأميركيون ولا الخليجيون في وارد مراجعة نهجهم في لبنان. وهذا يعني أنّ الوضع الحالي مستمر، وأنّ أحداً لن يجبر «الحزب» على تغيير نهجه. وفي المفهوم البراغماتي، يمكن الاستنتاج أنّ الولايات المتحدة و«حزب الله» يتقاطعان، ولكن سلبياً.
يقول البعض: ذات يوم سيتمّ إبرام تسوية بين السعودية وإيران، أو بين السعودية وسوريا، أو بين الولايات المتحدة وإيران، وحينذاك ستنجح التسوية في لبنان ويرتاح. ولكن، حينذاك، على الأرجح، سيكون البلد قد وصل إلى الخراب الكامل، بحيث يستلزم إنقاذه كثيراً من الجهد والوقت. وفي أي حال، هل يضمن أحد أن تأتي التسوية الموعودة لمصلحة اللبنانيين لا على حسابهم مرَّة أخرى؟
طوني عيسى- الجمهورية