الفوضى والرئاسة في عيون جنبلاط وباسيل… والمعادلة الكارثيّة!
أصبح للانهيار منطقه الخاص. فهو يحقّق قفزات كبرى ثمّ يهدأ، بل ويستقرّ إلى درجة أنّ الاستقرار بات صفة ملازمة للوضع الانهياري لا للوضع الطبيعي. وهذا ما يتيح الحديث عن استاتيكو الانهيار ويخفّف بالتالي من هوله، باعتبار أنّ كلّ قفزة يسجّلها ليست القفزة الأخيرة. وبذلك يصبح الانهيار مصطلحاً ملتبساً ومطّاطاً ما دامت كلّ قفزة منه تليها حكماً مرحلة استقرار كارثي، من دون أن نصل إلى ذروة الانهيار الذي لا يُعرف شكله ولا نتائجه، أي لا يُعرف متى يجوز أن يُقال إنّنا وصلنا إلى ذروة الانهيار أو إلى الارتطام الكبير، كما يحلو للبعض تسميته.
المنطق الخاص للانهيار ولّد بالتوازي منطقاً خاصاً للّعبة السياسيّة، وبالأخصّ عند حزب الله الذي تفوّق على باقي الأفرقاء في فهم منطق الانهيار والتصرّف وفقه. فمنذ البداية لم يكن هدف الحزب معالجة الأزمة أو منع تفاقمها، وإنّما منع تحوّلها إلى تهديد سياسي واجتماعي مباشر ضدّه.
وإذا كان حزب الله لا يملك قدرات كافية لعزل نفسه تماماً عن نتائج الانهيار، فإنّه يتعامل معه بوصفه أمراً واقعاً لا يقوى على تغييره لوحده ولا يملك مفاتيح التحكّم به. وبالتالي فإنّ هدفه تقليص ارتداداته عليه قدر المستطاع.
ويمكن تلخيص منطق الحزب على النحو التالي: عدم استبعاد استعداده لمعالجة الانهيار، لأنّ تفاقمه يفاقم حجم تبعاته عليه ويقلّص تالياً قدرته على التعامل معها أكثر فأكثر. غير أنّ هذه المعالجة تمثّل تهديداً للحزب، لأنّ شروطها لا تتوافر إلّا إذا كان مستعدّاً لتقديم تنازلات سياسيّة تسمح بانخراط عربي ودولي في معالجتها عبر الدعم المباشر أو من خلال الصناديق الدولية.
المعادلة الكارثيّة
هذا ما يحيل إلى العطب الجوهري في وضع الحزب كقوّة داخل الدولة وخارجها في آن معاً. فإذا كان هو المسؤول قبل غيره عن معالجة الأزمة بوصفه القوّة الرئيسيّة في الدولة، فإنّ قوّته هذه تشكّل عائقاً رئيسياً أمام المعالجة تلك، ما دامت تتطلّب حتماً قبوله بالتخلّي عن بعض قوّته على شكل تنازلات سياسيّة بدءاً من الانتخابات الرئاسية.
بيد أنّ حزب الله، بوصفه قوّة خارج الدولة في الأصل، غير معنيّ بإنقاذ الدولة ولو كان الأقوى فيها، إذا كان هذا الإنقاذ على حساب قوّته السياسية، أي أنّه يفضّل أن يكون أكثر قوّة في دولة منهارة على أن يكون أقلّ قوةّ في دولة متعافية.
نجاح الحزب حتى الآن في إرساء هذه المعادلة الكارثية لا يمثّل العقبة الرئيسية أمام حلّ الأزمة فحسب، بل يعكس أيضاً فشل خصومه في الداخل والخارج في إسقاط هذه المعادلة. وهذا يدفعهم إلى تقديم تنازلات للحزب، تجنّباً لمزيد من الفشل، أي أنّ ضغطهم عليه يؤدّي أخيراً إلى نتيجة عكسية. وهذا ما تكرّس منذ اغتيال رفيق الحريري سنة 2005.
يحيل هذا إلى المكمن الرئيسي لقوّة حزب الله خارج الدولة، أي بوصفه حزباً يمتلك منظومة اقتصادية واجتماعية وعسكرية موازية للدولة تتيح له مواجهة الضغوط في قلب الدولة من خلال توفير بعض شروط صمود منظومته خارجها، أي ضمن “بيئة المقاومة”.
ولذلك لا يجد الحزب نفسه مضطرّاً حتى الآن إلى معالجة أزمته في الدولة التي هي في الوقت نفسه أزمة الدولة، ما دام قادراً على حماية بيئته من تبعات تلك الأزمة.
منطقا الدولة والبيئة
لذا ما عاد يمكن تعريف ذروة الانهيار سياسياً قياساً إلى حجم تداعي مؤسّسات الدولة وانهيار العملة، بل إنّ هذه الذروة تصبح واقعية وملموسة لحظة سقوط دفاعات الحزب بوجه الانهيار. بمعنى أنّ ذروة الانهيار تتحقّق عندما يعترف الحزب أنّه فقد قدرته على حماية نفسه وبيئته منه، ويصبح بالتالي مستعدّاً لمعالجته داخل الدولة، أي عندما يقدّم الحزب منطق الدولة على “منطق البيئة”. وإذا كان هذا التقديم لا يلغي تنقّل الحزب بين المنطقين، فإنّه يسمح بهدنة ضرورية تمنع وصول الدولة إلى الدرك الأسفل، أي تمنع بلوغ الارتطام الكبير أو الفوضى الشاملة.
لكنّ الحزب لن ينصاع إلى منطق الدولة إلّا بشروطه. وهذا وجه آخر من وجوه الأزمة اللبنانية العميقة. فإذا كانت مقولة جورج نقّاش في الأربعينيات عن أنّ نفيَيْن لا يصنعان أمّة تعبّر عن بعد خارجي للأزمة اللبنانية، فإنّ استخدام حزب الله منطقين متناقضين في آن معاً، منطقَيْ الدولة والبيئة، بات يعبّر عن جذرٍ داخليّ للأزمة.
في الترجمة العملية لا يتنصّل الحزب من أيّ مسؤولية عن هذا العطب فحسب، بل هو حوّل العمليّة السياسيّة والاقتصادية – الاجتماعية إلى عملية تأقلم قسري مع هذا العطب، وفرضَ على الجميع، في الداخل والخارج، التعاطي معه بوصفه أمراً واقعاً أيّاً تكن ارتداداته على الوضع اللبناني بمجمله.
صانع السياسة واستحالتها
هذا ما يجعل الحزب صانع السياسة في لبنان ولاغيها في الوقت عينه. فهو يُفرغ السياسة من أيّ معنى وإجراء في لبنان، إذا حاولت معالجة العطب الذي يمثّله الحزب عينه في تنقّله بين منطق الدولة ومنطق البيئة، وجعله هذا التنقّل أداة ضدّ خصومه، وتحويله إلى ضرورة وجودية.
وهذا يعني أن لا سياسة في لبنان إذا لم تبدأ بتوفّر شروط إجبار حزب الله على التخلّي عن ضرورته تلك. وهذه عملية صعبة ومعقّدة إن لم تكن مستحيلة. والأكيد هو عدم توفّر إمكانية لها ضمن اللعبة السياسية الحالية التي أصبحت طيّعة بيد الحزب. ولذلك تتطلّب شروط إنتاج السياسة، في حال كانت ممكنة، الخروج من اللعبة السياسية القائمة راهناً: الخروج من منطق حزب الله الكارثي، والتحرّك من أسفل السلّم الاجتماعي، وإلّا فإنّ السياسة مستحيلة. لكنّ أحداث انتفاضة 17 تشرين بيّنت أنّ هذا التحرّك من أسفل دونه عقبات ومخاطر كثيرة. لذلك يطيب لحزب الله الدوران في هذه الحلقة المقفلة: استحالة السياسة.
أيّ إقناعٍ؟
أمام هذه الاستحالات يستمرّ حزب الله في إفراغ السياسة من مضمونها وجعلها عملية رضوخ لشروطه، وبالحدّ الأقصى عملية قبول بالتراضي بتلك الشروط. وهذا ما يعنيه كلام محمد رعد عن رغبة الحزب في إقناع سائر الأفرقاء بمرشّحه الضمني للرئاسة، سليمان فرنجية. لكنّ محاولة الإقناع تلك تتمّ على وقع تعطيل الحزب جلسات انتخاب الرئيس. وهو ما يحوّلها في النهاية إلى سعي متفاوت في الترهيب والترغيب لإجبار العدد الكافي من الأفرقاء على القبول بفرنجية على وقع الفوضى التي تلوح في الأفق والتي لا يملك الأفرقاء، ما خلا حزب الله، دفاعات قوية إزاءها.
ولذلك ما قاله جبران باسيل عن انتخاب رئيس على ضهر الفوضى ليس محضَ خيال. وهذا ما يتوقّع أن يعبّر عنه وليد جنبلاط على الشكل الآتي: لا بدّ من إجراء حوار مع حزب الله حول الانتخابات الرئاسية لتجنّب الفوضى… والبقيّة معروفة!
ايلي القصيفي- اساس