“دولة التعطيل الشامل”.., في سبيل إعادة تكريس قواعد جديدة للدولة الغنائمية!
يتحول لبنان رسمياً إلى ما يصلح الإطلاق عليه بـ”جمهورية التعطيل”. الخطورة هنا أن هذا التعطيل لم يعد مقتصراً على انتخابات رئاسة الجمهورية، والتي اعتادها اللبنانيون منذ سنوات، ولا حتى بتعطيل تشكيل الحكومات أو التعايش مع حكومات تصريف الأعمال، لأن هذا أيضاً قد اعتادوه، على قاعدة أن العرقلة السياسية لم تكن تتعارض مع عمل الإدارات والمؤسسات والأجهزة، وبالتالي، فإن منظومة المصالح المشتركة ما تحت سياسية كانت تبقى قائمة ومستمرة في وتيرة إنتاجها ومنتفعاتها أو غنائميتها.
تعطيل متبادل
في هذه المرحلة، كل هذه القطاعات أو الإدارات أو المؤسسات (وهو ما يُطلق عليه وصف “الدولة العميقة”) أصبحت في حالة تعطيلية مستدامة. وعندما تصل الحالة من التعطيل المتبادل أو استخدامه سلاحاً سياسياً بوجه الخصوم، فهذا لا بد أن يقود إلى انفجار في بنية التركيبة أو بنية النظام. وكل محاولات العلاج بالدراهم أو بالمراهم لا تبدو أنها قادرة على وقف النزيف، لا بل تكرّسه. ومن أبرز الدلائل على ذلك، النتيجة العكسية لكل المساعدات الاجتماعية والمالية التي أقرتها الحكومة لموظفي القطاع العام أو قطاعات التعليم، وأدت إلى ارتفاع نسبة التضخم، ومزيد من انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية، وأوصلت في النهاية إلى الإضرابات المستمرة في مختلف المجالات والقطاعات.
في مرور سريع على مشاهد التعطيل، من الرئاسة إلى عمل المجلس النيابي وتكبيل الحكومة المكبلة أصلاً بخلافات وصراعات متعددة الأوجه، أصبح النظام القائم عبارة عن قدرات تعطيلية متوالية. إذ لم يعد لديه أي قدرة لإنتاج الحلّ. فمثلاً، دفع رشى للموظفين سرعان ما ستتلاشى، وستكون آثارها أفدح، وإذ بهم يعودون إلى الإضرابات. على صعيد ما هو أوسع، فالعطب الذي أصاب الجسم القضائي، بالإضافة إلى الصراع بين رئيس الحكومة ومجلس القضاء الأعلى، يثبت مسار السير على طريق الانفجار الكامل في هذه السلطة. فمجلس القضاء منقسم على نفسه، والقضاة في صراعات لا تنتهي.
الجيش والقادة
الصراع السياسي الذي يحاول البعض افتعاله حول المؤسسة العسكرية وقرارات قائد الجيش، واختلافه مع وزير الدفاع، أيضاً سيكون لها آثار معطّلة لعمل هذه المؤسسات. علماً أن خلفيات الصراع سياسية بحتة. وكما هو لا ينفصل عن حسابات رئاسة الجمهورية، لا ينفصل أيضاً عن التفكير المسبق في آلية توزيع التعيينات داخل المؤسسات، منذ عرقلة التمديد لرئيس الأركان، وصولاً إلى تعيينات وتشكيلات مختلفة. وهذا يفتح باب النقاش المسبق لمرحلة ما بعد انتخاب رئيس جديد، في إطار الصراع على الشخصية التي سيتم تعيينها في قيادة الجيش. ومن الجيش إلى الربط الذي حصل في مسألة التمديد لمدير عام الأمن العام، اللواء عباس إبراهيم، بالتمديد لمدير عام قوى الأمن الداخلي عماد عثمان، فيما قاد الصراع السياسي إلى تعطيل التمديد للرجلين، بينما يتم العمل على اجتراح صيغ هلامية للتمديد لابراهيم. علماً أن هذا التعطيل ليس مرتبطاً بشخص المدير العام للأمن العام، إنما مرتبط بانعدام القدرة على اجتراح تسوية تقود إلى ذلك. الأمر نفسه ينطبق على مسألة الانتخابات البلدية التي يمكن أن تحصل بسبب عدم القدرة على اجتراح تسوية لتأجيلها.
الدولة المارقة
عملياً، تكرس هذه المرحلة السياسية في لبنان تخريباً لكل ما له علاقة بالدستور والانتظام العام. منذ العام 2016 تعيش البلاد صراعات أزلية حول الصلاحيات الدستورية، في مقابل تكريس أعراف وقواعد وسوابق، جميعها كانت الغاية منها الشّذ عن القاعدة الدستورية.
وعملياً، فعندما يتم تدمير الدستور في دولية معينة يكون ذلك في سبيل غاية أو أكثر، إما بنتيجة ثورة تهدف إلى تطوير النظام، وهذا غير حاصل حالياً، وإما في سبيل إعادة تكريس قواعد جديدة للدولة الغنائمية، وهذا ما يحصل في حسابات داخلية ودولية أيضاً، بعيداً عن كل ما له علاقة بالسياسة.
بذلك، فإن لبنان دولة التعطيل مفتوحة على مناهبات واسعة من قوى الداخل والخارج. فيما الخروج من هذه الدوامة، له ركائز واضحة، أبرزها إعادة تكوين السلطة السياسية بناء على رئيس يلتزم بالدستور ويعيد الاعتبار إليه. ووضع خطة اقتصادية واضحة للخروج من الأزمة. دون ذلك، فإن لبنان سيكون دولة مارقة.
منير الربيع- المدن