الدخول الأميركي المباشر قد لا يتأخر كثيراً في لبنان!
تزداد الأمور تعقيداً وترتفع معها مستويات التشنّج على وقع اشتداد التنافس الداخلي حول ما يعتبره البعض صراع انتخابي يتعلّق بالرئاسة الاولى، فيما التعبير الأصح هو صراع حول عنوان المرحلة المقبلة وطبيعتها وهويتها السياسية. والأسوأ انّ هذه الطبقة السياسية بمعظم أطيافها لا تأبه للنصائح التي تتوالى من الاطراف الدولية بأنّ عواصم العالم منشغلة بالتعقيدات العديدة والخطيرة على المستوى الدولي، وان الحد الادنى من المسؤولية الوطنية من المفترض ان يُلزم هؤلاء بالبحث عن حلول داخلية وفق ما تقتضيه المصلحة الوطنية ومصلحة اللبنانيين، لا الاستماتة حتى آخر حجر على تأمين المصالح الذاتية للقوى السياسية وزعمائها.
في الواقع ثمّة قناعة راسخة موجودة لدى العواصم المهتمة بلبنان ولدى الأطقم الديبلوماسية بأنّ علّة لبنان الفعلية هي في الذهنية السياسية التي يجري من خلالها ادارة البلد، بوجود طبقة سياسية تبرّع في التلاعب بعواطف ومشاعر الناس وتذهب في الوقت نفسه في امتهان سياسة لا تفقه سوى لمصالحها السلطوية والذاتية.
وعلى سبيل المثال يروي قادمون من الفاتيكان بوجود قلق عميق وكبير لدى مسؤولي الكرسي الرسولي حيال الخطر الوجودي الذي يتهدّد لبنان ومسيحييه نتيجة الانانية المفرطة السائدة، وانّ دوائر الفاتيكان تعمل دائماً على حَث العواصم الكبرى وفي طليعتها واشنطن كي يبقى لبنان حاضراً وسط ازدحام الملفات الملتهبة ولتجنيبه دفع فواتير الشرق الاوسط.
صحيح انّ الاطراف اللبنانية تستمتِع بترف استهلاك الوقت وهو ما فعلته سابقاً كما حصل في العام 2014، لكن الأصح انّ لبنان ما عاد يمتلك الحد الادنى من المناعة التي تسمح باستهلاك الوقت. فأزماته هائلة والانهيارات طالت كل المجالات الاقتصادية والحياتية، ومؤسسات الدولة انهار معظمها وهنالك الكثير منها أقفل ابوابه، وأضحَت نسبة اللبنانيين الذين يرزحون تحت وطأة الفقر والحاجة كبيرة جداً. وهذا ما أحدثَ نمواً سريعاً للعصابات على انواعها.
وخلال الاجتماع الاخير لمجلس الامن المركزي وأثناء استعراض خلفيات الفوضى التي بدأت تعمّ الشارع، والتي وصلت الى حدود إحراق بعض فروع المصارف المقفلة، أجمعَ المسؤولون الامنيون بعدم وجود جهة تحرّك الذين يقومون بأعمال الشغب. لا بل انّ احد هؤلاء المسؤولين الامنيين شرحَ، متوجّهاً الى رئيس الحكومة، بأنّ اي بلد في العالم يعيش تحت وطأة الحاجة والفقر وهو لا يستطيع تأمين قوته اليومي وأمواله التي ادّخَرها لم تعد موجودة، وهو لا يستطيع تسيير أعماله عبر مؤسسات الدولة ويقع فريسة الشحن السياسي اليومي، ويتوّج كل ذلك بالعجز عن تأمين استمرارية السلطة من خلال الشغور الموجود على مستوى الرئاسة الاولى، لكانت ثارت الناس وانتشرت في الشوارع وعمّت الفوضى واعمال الشغب بما لا يُقارن مع ما هو حاصل في لبنان. وختمَ مطالعته بالقول: ان الحل معروف ولا يقع على عاتق الاجهزة الامنية التي تقوم بأكثر مما تستطيع، بل بالسياسة، حيث يجب ان تبدأ المعالجة.
في الواقع جاء الانهيار المُتسارع في سعر صرف الليرة ليعزّز الانطباع بأنّ المصرف المركزي فقد سيطرته على التحكّم بالسوق المالي، وهو ما زاد من قلق اللبنانيين.
والمشكلة الأهم تبقى في الامعان اكثر في عملية استهلاك الوقت كسلاح يُستعمل في إطار سعي كل فريق لتحقيق مكاسبه. وكان امين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله صريحاً في اعترافه للمرة الاولى ربما بالحديث عن الامساك باليد التي توجِعه، وهو عَنى بذلك الناس والبيئة الشعبية الحاضنة لـ»حزب الله». وهو بخطابه الغاضب عكس ايضاً صعوبة الوضع واستمراره وفق وتيرة الانهيار نفسها، ما جعله يلوّح بالرد عسكرياً في اسرائيل. صحيح انّ كلام نصرالله أقلقَ الاسرائيليين وهو ما أظهَرته وسائل الاعلام الاسرائيلية، كَون تجاربهم جعلتهم يثقون بأنّ أمين عام «حزب الله» يعني ما يقول، الّا ان الاوساط الديبلوماسية الغربية قرأت كلامه بهدوء اكثر وهي اعتبرت انه يحذّر من انّ الذهاب بعيداً اكثر في لعبة عَض الاصابع، سيعني فتح الابواب امام كل الاحتمالات.
حتى الآن أظهرت فرنسا فشلاً في تعاطيها مع تعقيدات الملف اللبناني، فمنذ الدخول المباشر للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون على الملف اللبناني بعد انفجار مرفأ بيروت الهائل، توالت «الدعسات الناقصة» لباريس في لبنان.
ورغم أخطاء ماكرون منذ اكثر من سنتين، بَدا انّ الدروس المطلوبة لم يجرِ استخلاصها، وهي كرّرتها خلال الاشهر الماضية. البعض وضع ذلك في سياق الخلط ما بين المصلحة اللبنانية والمصالح الفرنسية، فيما البعض الآخر وضعها في اطار الآراء والاتجاهات المتناقضة والمتضاربة الموجودة داخل الفريق الذي يُعاون ماكرون والمكلّف بالملف اللبناني.
لكنّ الفرنسيين مقتنعون بأن «حزب الله» يريد انهاء الازمة الرئاسية في لبنان بأسرع وقت ممكن ولكن ليس وفق أي ثمنٍ كان، وانّ خطاب السيد نصرالله هو مؤشر واضح على ذلك.
وسمع الفرنسيون من «حزب الله» بأنه جدي جداً بطرحه سليمان فرنجية كمرشح رئاسي وانه لا يناور بذلك. ولكن الفرنسيين عندما طرحوا ذلك في الاجتماع الخماسي في باريس لم يلمسوا موافقة بعض الدول الحاضرة. الواضح انّ السعودية ما تزال تقفل بابها امام تسويات من هذا النوع، لدرجة انها تضع البنود التي وردت في الورقة الكويتية التي قُدمت العام الماضي كحد أدنى لرؤيتها تجاه لبنان. وتدرك باريس، وخصوصاً واشنطن، انّ اي حل فعلي للبنان للانطلاق في التأسيس لمرحلة استقرار واعادة اعمار في لبنان، لا يمكن ان يحصل من دون المؤازرة السعودية. أضف الى ذلك ان السعودية اليوم لا تشبه بشيء سعودية الامس. بمعنى ان منطق المقايضات لم يعد وارداً كما كان يحصل في السابق. أضِف الى ذلك انّ الدور القطري سيصبح صعباً مُستقبلاً في حال بقيت السعودية على موقفها. فالسعودية باتت تضع الرؤية السياسية في الاولوية والعلاقات الشخصية في أدنى المراتب. والانطباع الموجود في الكواليس الديبلوماسية انّ مفتاح الحل موجود لدى واشنطن إن لبنانياً او حتى سعودياً. والمقصود هنا بأنّ ضمانات المرحلة المقبلة وهَندستها، والتي لَمّح اليها أمين عام «حزب الله» مواربة اكثر من مرة، تستطيع واشنطن وحدها تأمينها تماماً كما حصل مع النجاح في ولادة ترسيم الحدود البحرية لكن ثمة ظروفاً قد تكون واشنطن تنتظرها قبل الشروع في مفاوضات الكواليس لهندسة المرحلة المقبلة. فمن الواضح انّ «حزب الله» لن يذهب مجاناً الى مرحلة جديدة لا تبدو معالمها الداخلية واضحة، خصوصاً على مستوى السلطة التنفيذية.
وقد تكون واشنطن تنتظر اولاً خطوات ما لها علاقة بإيران تسمح بتأمين مدخل ملائم للازمة اللبنانية. وقد تكون ايضاً بانتظار حصول تقدّم حاسم بين السعودية وايران، وهو ما بدأت بشائره تظهر رغم انه لم يكتمل بعد، لتصبح شروط السعودية اكثر مرونة، وتسمح بصياغة حلول تحمل المضمون نفسه ولكن بعبارات اكثر مرونة.
والتقدّم الحاصل على مستوى اليمن، يعطي بعض التفاؤل ولو انه ما يزال في مراحله الاولى. وخلال الاشهر الماضية أعطَت واشنطن العديد من الاشارات وقامت بالعديد من الخطوات، والتي تؤشّر الى أنها استعادت اهتمامها بالشرق الاوسط، ووضَعته تحت مجهرها، ناقِضة بذلك الانطباع الذي ساد مع دخول بايدن الى البيت الابيض بأنها ستنسحب من الشرق الاوسط، وهو ما أقلق السعودية يومها.
وبعد زيارة بايدن الى السعودية وإعلانه بوضوح انّ بلاده لن تترك مساحات فارغة في الشرق الاوسط ستعمل الصين على ملئها، عمدت واشنطن على اعادة تمتين علاقتها العسكرية والامنية مع دول الخليج، تصحيحاً لخطوة سحب صواريخ الباتريوت من السعودية. فجرى تطوير منظومة الدفاع الجوي في الخليج بما يتناسب مع التطوّر الذي حققته إيران على مستوى الصواريخ والطائرات المسيرة.
كذلك عاوَدت عقد الاجتماعات العسكرية والامنية ما بين القيادة العسكرية للجيش الاميركي في المنطقة «السينتكوم» وبين جيوش مجلس التعاون الخليجي. فبعد انقطاع طويل تخلّله اجتماع واحد خلال ولاية دونالد ترامب، جَرت معاودة هذه الاجتماعات الاسبوع الماضي وحصل التزام عسكري أميركي واضح بأنهم ملتزمون بأمن دول الخليج وانهم يدركون بأنّ ايران تكتسب خبرات متتالية جراء مشاركتها، ولو من خلال الاسلحة في حرب أوكرانيا، وهو ما يستوجِب تطوير التعاون لحماية امن دول الخليج.
وعلى الرغم من انّ واشنطن أبلغت حلفائها الخليجيين بأنه لا توجد مؤشرات حقيقية حول احتمال حصول تصعيد عسكري قريب في الشرق الاوسط، إلّا انها تعتبر انّ احد الدروس التي تعلّمتها من انسحابها من أفغانستان، هي بأنّ الاماكن التي ستخليها سيجري ملؤها فوراً بالقوى المعادية لها.
كذلك همست الديبلوماسية الاميركية بأنّ الرئيس الاميركي الذي بدأ يقترب من مرحلة الانتخابات الرئاسية، قد لا يجد مصلحة انتخابية له بالانخراط من جديد بمفاوضات مع ايران حول الاتفاق النووي.
وهذا المناخ الجديد بين واشنطن ودول الخليج والقائم على استعادة الضمانات العسكرية والامنية الفاعلة، قد يسمح لواشنطن بتليين الموقف السعودي تجاه لبنان.
صحيح انّ الوضع في لبنان شديد السواد في المرحلة الحالية، لكن ثمة تفاؤلاً في الكواليس الديبلوماسية المعنية. فهنالك من هو واثق بأنّ التفاهمات ستحصل مع «حزب الله» وانّ موعدها قد لا يتأخر كثيراً. ذلك انّ الازمة يجب ألا تتجاوز موعد نهاية ولاية حاكم مصرف لبنان في تموز المقبل، وإلا فإنّ الانهيار الكامل سيطيح بما تبقى من دولة لبنان، وهو ما يعتبر ممنوعاً ليس فقط على المستوى الاميركي والخشية من ان يؤدي ذلك الى الإطاحة معه باتفاق ترسيم الحدود البحرية وفتح الجنوب امام كل اشكال الاحتمالات، ولا ايضاً روسيا الغارقة في حرب اوكرانيا والتي تخشى كثيراً الاطاحة بما حققته في سوريا بفِعل عدم الاستقرار، بل ايضاً على المستوى الأوروبي، لأنّ أوروبا تعيش كل يوم مخاطر أفواج المهاجرين غير الشرعيين عبر البحر، ومن ضمنهم عناصر إرهابية.
جوني منيّر – الجمهورية