إرث رفيق الحريري.. وأصل “الفساد”: سعد الحريري رجل مكسور تماماً وعجوز على نحو مبكر!
قتلُ رفيق الحريري هو المبتدأ. العملاق السياسي، العملاق الاقتصادي، كان يجب اغتياله كي يبتدئ المسار الجهنمي الذي سيقوّض العراق الجديد ويقصف ربيع دمشق وينهي الكيان اللبناني ويصادر ما تبقى من القضية الفلسطينية. كان يجب اغتيال رفيق الحريري من أجل استباحة المشرق العربي برمته وتحويله “باحة خردة” (لا حديقة خلفية) لامبراطورية العنف الديني وميليشيات الموت العميم.
منذ 14 شباط 2005 بدأت رحلة الشقاء في لبنان، الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة هذه الأيام، رغم كل المقاومة التي أبداها بانتفاضتين عظيمتين، بعدما فشلت الأولى باستعادة السيادة والاستقلال، وفشلت الثانية باستعادة النظام الديموقراطي.
يتبدّى من هذا التاريخ، التقدير الكبير الذي استحقه الحريري من قبل القتلة. كانوا يدركون بنباهة استراتيجية قدرات هذا الرجل وأي ديناميكية سياسية يتمتع بها، وأثره في مستقبل لبنان وفي مصير المشرق العربي.
مقابل ذلك، كانت المأساة بموت الحريري أن “ورثته” كانوا أقل نباهة أو حتى قدرة على تعويض غيابه الشخصي بتمكين حضور إرثه واستمراريته.
فأول ما نظروا إليه واختلفوا فيه وتوافقوا عليه هو ثروة رفيق الحريري، في المال والعقار والاستثمار. قد يكون هذا بديهياً، لكن حدث ذلك من غير احتساب أعباء “الوراثة السياسية” التي هي الأوزن والأضخم في تركة الحريري الأب. وإذ حسمت سريعاً وانعقدت لسعد الحريري، فقد خلّفت ضغينة في نفس شقيقه بهاء، الذي بقي على مضض متحيناً فرصة المنافسة والرغبة بانتزاع عباءة الزعامة. ودلّت أفعال معظم الشركاء في الإرث العائلي، على رغبتهم بأخذ الحصة (حتى آخر فلس) وإدارة الظهر والتخلي والابتعاد عن مسؤوليات وواجبات ضخمة أُلقيت على عاتق الشاب سعد الحريري وحده. لقد كانوا أول من تخلى عن رفيق الحريري وجعلوا اغتياله تاماً ومنجزاً على معنى الغياب والفوات.
لذا، بدا سعد الحريري يتيماً على نحو محيّر ومحرج. مع ذلك، سرعان ما كسب الشاب ما لم يستحصله الوالد الذي كان مقيّداً بوصاية سورية عاتية ومتعسفة، والتأم حوله شعب بطوائفه وطبقاته وأحزابه، ومنحه قيادة ائتلاف عريض ما كان يحلم به رفيق الحريري نفسه.
في شهر واحد، بات سعد الحريري “زعيماً” لجبهة وطنية ولأغلبية برلمانية ورمزاً لطموح سياسي جسدته الملايين في يوم 14 آذار، الذي سيبقى أنصع لحظة في تاريخ لبنان منذ ما قبل نشوئه.
من هذا الرصيد الهائل تكونت الثروة الحقيقية لسعد الحريري.
أمس، كانت صورته الأولى بعيد وصوله. رجل زائغ العينين، منهك وفاقد الحيوية، باهت التعبير. عجوزاً على نحو مبكر. رجل مكسور تماماً، ولا يقدر على إخفاء إيماءات الخيبة.
صورته هذه تسترجع أيضاً تلك الصورة التي ظهر فيها يوم تلا استقالته “الإجبارية” من الرياض، خائفاً ملتاعاً كمن يقبض عليه مذنباً بالجرم المشهود. بل وتذكرنا أيضاً بصورتين مخجلتين، يوم معانقة بشار الأسد، ويوم مبايعة ميشال عون رئيساً.. وما بينهما من صور جلسات “المساومات” الخبيثة مع جبران باسيل وغيره.
تلك الصور تختصر سيرة استثماره على مدى 14 عاماً الثروة العظيمة التي حازها عام 2005.. واستنفدها لآخر مرة عام 2019، خارجاً نحو المنفى الملتبس والصمت الإجباري.
14 عاماً أمضاها يقاول بجبل الحريرية صخرة صخرة حتى ساواها بالأرض القفر.
وإذا كان في هذه السيرة عبرة، فهي أن الخطأ الأصلي يظل في رغبتنا البدائية بالبحث عن “عملاق” أو قائد مخلص أو زعيم ملهم، وننيط به السياسة وتقرير المصير.
هذا أصل الفساد.
يوسف بزي- المدن