عندما قال الأسد: جنبلاط انتهى ويجب أن ينتهي…أنسوا أمر كمال جنبلاط!

باتت أخبار المجازر المتنقلة في سوريا أكبر من قضية اعتقال المتهم باغتيال كمال جنبلاط اللواء إبراهيم الحويجة رئيس المخابرات الجوية بين عامي 1995 و2002. قد يكون آخر هم النظام الجديد التوغل في التحقيق مع الحويجة في هذه القضية التي تهم لبنان والدروز ووليد جنبلاط. الرجل ارتبط اسمه بأكثر من جريمة وامتدت مسؤوليته على أعوام كثيرة قبل أن يربط بمسألة تحريك مجموعات تابعة للنظام السابق في طرطوس واللاذقية من أجل الانتفاضة على النظام الجديد. لذلك قد تصبح مسألة إدارته لعملية اغتيال جنبلاط مجرد تفصيل في سجل كبير إلا في حال أرادت السلطة الجديدة استثمار هذا الدور الذي لعبه بأوامر نظام الأسد الأب في العلاقة مع الدروز داخل سوريا.
بانتظار الزيارة التي سيقوم بها الرئيس السابق والمدير الدائم لـ “الحزب التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط إلى رئيس الجمهورية السورية في المرحلة الانتقالية أحمد الشرع، تبقى قضية التحقيق مع اللواء المعتقل إبراهيم الحويجة معلقة. طلب جنبلاط للزيارة سبق عملية اعتقال الرجل الذي انتظر كثيراً محاسبته ومحاكمته والانتقام ونهايته. هو لا يعتبر أنه المسؤول المباشر عن عملية اغتيال والده لأنه كان ضابطاً صغيراً ينفذ الأوامر. عندما سقط نظام الأسد الابن اعتبر جنبلاط أن التاريخ أنصف والده وأن القدر لعب لعبته وانتقم له، ولذلك عندما زار الشرع في المرة الأولى لم يطلب منه أي أمر يتعلق بمسألة اعتقال الحويجة. هذا الموضوع كان جنبلاط قد تخطاه لأنه تجاوز المسألة الشخصية منذ أقفل الملف القضائي ولم يتطرق معه إليه. كان يريد أن يسجل ارتياحه لزوال حكم آل الأسد ولكن المشكلة التي بدأت تتمدد نحو مستقبل الدروز في سوريا كانت أكبر من مسألة العودة إلى البحث عن تفاصيل ملف اغتيال والده. ولكن من حيث لا يدري أو يتوقع جاءته عملية اعتقال الحويجة لتضعه أمام مواجهة الحقيقة مع المستجدات السورية وفتح ملف أراد أن يطويه. مهما يكن فإن إعادة فتح هذا الملف تبقى ملك السلطات السورية الجديدة إن لم يكن على سبيل المحاسبة فعلى سبيل المعلومات وجلاء الحقائق التي لا تزال مخفية. فقضية اغتيال كمال جنبلاط لم تكن عملية سرية مقفلة لا يمكن اكتشاف أسرارها ومن أمر بها، ومن نفذها، بل كانت بمثابة قتل معلن لم يستحِ به نظام الأسد الأب وأراد من خلاله أن يدوّن درساً لكل من يعارضه.
أنسوا أمر كمال جنبلاط
في كتابه “السلام المفقود” الذي يختصر فيه قصة عهد الرئيس الياس سركيس وقد كان أحد مستشاريه وعضواً في فريق عمله، يروي كريم بقرادوني أنه “في 26 تشرين الثاني 1976، عاد وزير خارجية لبنان فؤاد بطرس من دمشق، بعد لقاء الرئيس السوري حافظ الأسد، موفداً من رئيس الجمهورية اللبنانية الجديد الياس سركيس، والهدف استطلاع موقف الأسد من عملية تشكيل الحكومة الأولى وانطلاق العهد الجديد، بعد إرسال قوات الردع العربية إلى لبنان وكانت غالبيتها سورية، كان بطرس قد حمل من سركيس اقتراحاً بتشكيل حكومة سياسية تضم ممثلاً عن كمال جنبلاط، أو حكومة غير سياسية لا تضم ممثلين عن أطراف النزاع، ونقل بطرس إلى سركيس أن الأسد أبدى موقفاً صارماً تجاه كمال جنبلاط ونصح بالعدول عن إحياء التجربة الشهابية التي “مر عليها الزمن” قائلاً: “إنكم لا تستطيعون العودة إلى الوراء، انظروا إلى المستقبل… يجب أن تعلموا أن كمال جنبلاط هو سبب الأزمة في لبنان والمنطقة، لقد تآمر على أمن لبنان وسوريا، ولو أنه انتصر لما كان رحم أحداً، إنه يحاول الآن إعادة علاقته معنا ولكننا نرفضها، لقد عزلناه وأوصدنا كل الأبواب بوجهه، فهل تريدون فتحها من جديد؟ بوجود كمال جنبلاط لن يرتاح أحد، لا لبنان ولا سوريا ولا الرئيس سركيس نفسه، جنبلاط قد انتهى ويجب أن ينتهي”. ولما سأل بطرس الأسد عما إذا كان يريد القضاء على جنبلاط قال له الأسد إنه لا يريد القضاء عليه جسدياً، بل سياسياً لأنه لا يؤمن بالاغتيال السياسي، وأن جنبلاط يجب أن يعود مواطناً عادياً”.
تصفية حسابات
هذا الكلام لم يكن جديداً ومفاجئاً للرئيس اللبناني، عندما التقى الأسد شخصياً في 31 آب 1976، قبل استلامه السلطة رسمياً استفاض الأسد في إظهار غضبه على كمال جنبلاط وروى لسركيس بعض ما دار بينهما في آخر لقاء في 27 آذار من ذلك العام، عندما حصل الخلاف الكبير بينهما ورفض الأسد السماح لجنبلاط ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات استكمال العمليات العسكرية من أجل الحسم العسكري ضد المناطق المسيحية، بالتالي اعتبر جنبلاط أن الأسد حرمه هذا النصر، وقد نسجت روايات كثيرة حول هذا اللقاء الذي يقال إنه دام سبع ساعات وانتهى بخروج جنبلاط متوتراً من دون أن يودع الأسد أو يصافحه.
هذا اللقاء كان مؤشراً إلى تحول سياسي وعسكري كبير يحصل في لبنان من خلال انفتاح النظام السوري على أحزاب الجبهة اللبنانية المسيحية، التي كانت تدافع عن المناطق المسيحية ضد الهجوم الذي شنه عليها تحالف جنبلاط وعرفات، حتى آذار من ذلك العام كان النظام السوري قد أسهم في دعم الحرب ضد “الجبهة اللبنانية” التي كانت تجمع الأحزاب المسيحية، ولكن الخلاف بين الأسد وجنبلاط وعرفات خلق التحول الذي كان ظرفياً أيضاً وكان يخفي في طياته صراعاً حول من يسيطر على لبنان.
كان هدفاً سهلاً للاغتيال
في أول حزيران 1976، حصلت المواجهة العسكرية بين القوات السورية التي كانت دخلت إلى لبنان وبين القوات المشتركة اللبنانية الفلسطينية، وكانت المعركة الأساسية في صوفر وبحمدون، وانتهت إلى انكسار هذه القوات، واستكمال تقدم القوات السورية نحو بيروت وانتشارها في جبال لبنان وعاليه والشوف، منطقتي نفوذ جنبلاط، وفي 20 تشرين الثاني 1976، أعلن جنبلاط موافقة الحركة الوطنية على اتفاق وقف إطلاق النار، الذي أعلنته قمة الدول العربية المصغرة في الرياض، والتي أوصت بإرسال قوات الردع العربية إلى لبنان، التي شكلت القوات السورية الموجودة أصلاً في لبنان عصبها الرئيس، وكان جنبلاط يتلو البيان ويبدو عليه التوتر، وإلى يساره جلس محسن إبراهيم رئيس منظمة العمل الشيوعي، وكان يدخن بعصبية، وإلى يمينه جلس صامتاً رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي المعارض للتدخل السوري إنعام رعد.
كان هذا المؤتمر تسليماً بالنتيجة التي انتهى إليها التحول العربي الكبير في تبني محاولة إنجاح عملية السلام في لبنان، وبدء عهد الرئيس سركيس ببناء الأمل في ظل الأمن السوري، وكان بمثابة استسلام للأمر الواقع ودخول غير آمن إلى الحل في ظل خلاف كبير مع النظام السوري، كان جنبلاط مدركاً أن الخلاف الكبير مع الأسد لن يكون من السهولة تجاوزه، وصلت إليه معلومات بأنه قد يُغتال، وتلقى نصائح بالخروج من لبنان والإقامة في مصر، ولكنه رفض، وكان قد أصبح مغلوباً على أمره ومكشوفاً أمنياً في ظل وجود نحو 25 ألف جندي سوري في لبنان، ونشر مفارز مخابرات تابعة لهم في مختلف المناطق، وكان جنبلاط تعرض للتضييق الأمني على الحواجز السورية، فاضطر إلى تخفيف مواكبته الأمنية الأمر الذي جعله هدفاً سهلاً للاغتيال.
نجم الهاشم- نداء الوطن