نصر الله وهوس الحرب: كيف ننتصر ومن يربح الحرب في النهاية؟
يُكثر أمين عام حزب الله حسن نصر الله من الإطلالات والخطب من دون أن يكون لديه شيء جدي يقوله أو مقترح مدروس بعناية لحل الأزمة اللبنانية في انسداداتها السياسية وكوارثها الاقتصادية. يأخذ نصر الله النقاش دائماً إلى منطقة أخرى غير ذات صلة بالأزمة، لكنها منطقة تريحه وتجعله يقف على أرض صلبة، توفر له الزخم الذي يحتاجه لتعبئة جمهور حزبه وطمأنته وزرع الثقة والثبات لديه، وتضع بين يدي نصر الله عناصر القوة التي يحتاجها لإعلان موقف أو تثبيت قواعد لعبة سياسية ووضعية اشتباك تضمن له ولحزبه اليد العليا وموقع المقتدر على التحكم بأصولها ومجرياتها.
آخر وصفة وضعها نصر الله كشرط “أساسي للنهوض في البلد”، هي إيجاد رئيس الجمهورية “لا يخضع للضغوط الأميركية… بدنا رئيس عندو ركاب وإذا نفخو عليه الأمركان ما يطير من قصر بعبدا عالبحر المتوسط… ولا نريد رئيساً أو وزراء يقولون لنا اتصلوا بنا من السفارة الأميركية وطلبوا منا رفض القيام بهذه الخطوة أو تلك”.
ما قاله نصر الله لا يناقش، لا لجهة أنه حاسم وجلي، بل لجهة أنه لا توجد ضابطة دقيقة لهذا الكلام يمكن تطبيقها للتعرف إلى صاحب الرِكَب وصاحب البأس الذي لا يهاب الأمريكيين. فنصر الله بهذا الشرط يضع شرطاً تعجيزياً لانتخاب رئيس وتأليف حكومة، بل هو شرط انتحاري للبنان واللبنانيين. فلو شمل جميع الدول في عدم الخضوع لها، لكان لكلامه دلالة وطنية مخلصة، أما حصر المواجهة والصمود السيادي بوجه أميركا وحدها، فهذا شرط فضلاً عن استحالة تحققه، هو جر لبنان إلى جبهة لا تعني لبنان ولا يمكنه أن يكون جزء منها. محصلة كلام نصر الله، أو ما لم يصرح به، أنه يبشرنا أن معضلة رئاسة الجمهورية مستمرة من دون أمد، لأنه ربط حلها بشرط تعجيزي لا يمكن تلبيته، وأن الكارثة الإقتصادية لا أفق حلٍ لها بسبب تعثر الحل السياسي. كأن نصر الله يقول لنا هذه المرة: لبنان الآن ساحة مواجهة مع الأمريكيين، لنكسب المواجهة أولاً، وبعدها نتكلم عن رئاسة واقتصاد ودولة وحتى كيان.
ما يعنينا هنا ليس كلام نصر الله المباشر، بل ما هو حول كلامه، أي الذهنية التي يفكر بها، والثوابت التي ينطلق منها، والأولويات التي يعتمدها في كلامه وتصريحاته ومقابلاته. أي يعنينا خطاب نصر الله في استراتيجيات الظهور والخفاء، التورية والتصريح، الإقناع والإرغام.
من يتلقى كلام نصر الله ويستمع له، لا يجد فيه إسهامات في حل الأزمة الحالية التي باتت مداخلها معروفة وبديهية، ولا ينتظر أجوبة على أسئلة تشغل الفرد العادي وتقلقه وتنغص عيشه. فكلامه يوحي بأن الأزمة الحالية، ببعديها السياسي والاقتصادي، أمر عارض وآني، مجرد “قطوع” يمر ويعبر، وأن التحدي ليس في الخروج منه لكن في كيفية الخروج منه، في صورة لبنان الجديدة التي يستقر عليها بعد انتهاء الأزمة، في وضعية اللاعبين والفاعلين وقواعد توزيع القوة والنفوذ بينهم.
لا يقدم نصر الله أجوبة بل سلسلة مواقف قد تكون مباشرة حيناً وقد تكون متوارية ومستبطنة خلف مقترح سياسي أو اقتصادي حيناً آخر. لا يتضمن كلامه نقاشاً لفكرة أو تحليلاً لمبدأ أو تصوراً مدروساً لحل، بقدر ما هو في حدته وحزمه، بيانٌ للعلم والخبر، بلاغٌ وخبرٌ وإعلانٌ عن موقف أو قرار، تنبيه وإنذار، تهديد ووعيد من مواقف وقرارات يأخذها الآخرون أو يمكن أن يأخذوها.
لذلك بات بعض مريدي نصر الله ومتملقيه يصفون كلامه بالكلام الفصل. هو وصف تعودنا استعماله بين المتنافسين في حقول الأدب والفن والفكر لاستخراج أفضل ما عند أهل الأدب والفن والفكر من ابتكار وموهبة. أما في حالة نصر الله فالكلمة الفصل تستعمل للإشارة إلى أنه صاحب الكلمة الأخيرة في تقرير الأمور، ويملك القدرة على حسم أية وضعية. الفارق بين الاستعمالين: أن الأول، أي التنافس الأدبي والفني والفكري، يحث على مزيد من الإنتاج والعطاء وتحفيز الطاقات على بذل وسعها. أما الثاني، أي كلام نصر الله، فيخنق الخيارات ويضيق الاحتمالات، ويرسم خطوطاً صلبة لدوائر الممكن وغير الممكن، الشرعي وغير الشرعي، المباح والمحرم. الأول يحثك على المجيء بأفضل مما قيل بالتالي يبقي باب النقاش مفتوحاً وانتظار الأفضل قائماً. أما الثاني فينهي النقاش ويقفل المحضر، لأن غرضه الإسكات والتبكيت لا النقاش والمباحثة، الحسم لا استكشاف الاحتمالات والإمكانات. الأول يبقي الباب مشرعاً للبدائل ومفتوحاً للارتقاء والتحول. الثاني يقول لك هذا قدرك النهائي، هنا آخر الطريق، فلا شيء بعدها أو ورائها، ولا تتأمل في أي جديد أو تغيير.
سؤال الأزمة الحالية، التي ما يزال نصر الله يتعامل معها بخفة ويُغيِّب في خطابه كل الأسئلة الحقيقية حولها: ما أسبابها وما عمقها؟ أين أخطأنا وأصبنا؟ ما التنازلات التي يجب أن نقدمها؟ ماذا يمكن فعله؟ هي أسئلة تجعل الوطن والدولة والمواطن، ثوابت وبديهيات أولى تبنى عليها ولأجلها المقترحات الحلول، وتدفع الجميع إلى إعادة نظر وتعديل ومراجعة شفافة ومؤلمة لكثير من اليقينيات والذاتيات المتضخمة. طبعاً هذا لا يتم إلا بشيء من التواضع ليعرف الإنسان محدوديته وبأنه يخطيء ويصيب، وبشيء من نكران الذات والتخفيف من سطوة الأنانية ليعرف المرء أو الحزب أنه ليس محور هذا العالم.
أما كلام نصر الله، الأخير والسابق وعلى الأغلب اللاحق، فيتمحور حول سؤال: كيف ننتصر ومن يربح الحرب في النهاية؟ هو سؤال يجعل الأزمة الحالية مجرد تفصيل وعارض جزئي وربما تافه. تجعل المشروع لا بناء وطن بل حروب على أرض مفتوحة، لا تأسيس دولة بل توظيف ما توفر من موارد لحسم المعركة. بالتالي تَنصَبُّ الاولويات والاهتمامات وبناء الاستراتيجيات، لا على حل الأزمة بل على كيفية إدارتها، على التموضعات المناسبة والرابحة في كل ظرف مهما كانت درجة امتهانه الإنساني عالية.
وجيه قانصو- المدن