النّصر النّهائي إسرائيليّاً: هل انتهى الحزب؟ ما هو شكل اليوم التالي؟
هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو المطلوب من الحزب الجديد القديم، ومن شراذم المعارضة، كي يلتئم الجميع في بوتقة وطنية جديدة؟ هل نكون بذلك نستعجل الأمور، ونستخفّ بقدرات المقاومة، ونتجاوز وقائع الميدان؟
في العمق، انتهى الحزب الذي نعرفه حتى لو أخضع إسرائيلَ لإرادته، وحمى سيادة لبنان تماماً من الانتهاك، وخرجت جموع المؤيّدين عقب وقف إطلاق النار مباشرة لإعلان النصر. الحزب كظاهرة أيديولوجية واجتماعية وسياسية واقتصادية لن ينتهي، وسيظلّ مؤثّراً بقوّة في الطائفة، وفي لبنان.
كما سيبقى دوره كمقاومة مسلّحة، إن احتلّت إسرائيل أراضي جديدة، سواء بالدبّابات، أو بالطائرات بلا طيّار، ولا فرق بين الحالتين. هو الآن تحت الصدمة، ويشتغل بالذهنية نفسها ما قبل الحرب. ما سيحتاج إليه بشدّة هو مراجعة الحقبة السابقة، وقراءة المتغيّرات الجديدة، ووضع أولويّات المرحلة المقبلة.
النّصر النّهائي إسرائيليّاً
ظاهريّاً، ما يحدّد النصر والهزيمة في الصراع الحاصل بعض المؤشّرات الكمّية والنوعية: حجم المخزون الصاروخي الباقي لدى الحزب، والقدرة على تعويض المفقود منه بسبب الاستعمال أو التدمير، والقدرة على إطلاق الصواريخ إلى المدى الذي يغطّي شمال إسرائيل وصولاً إلى حدود تل أبيب، بشكل منتظم يومياً، ولمدّة كافية، إلى حين نضوج الظروف الميدانية والدبلوماسية لوقف إطلاق النار، من وجهة نظر الحزب.
إذا صمد في هذا المجال تحديداً، يمكنه اعتبار نفسه أنّه قد انتصر في حرب الوجود، بعدما باتت حرب الإسناد وراءه. أمّا الدمار المنهجي لمقوّمات الشيعة، التي شيّد الحزب كثيراً منها بدأب على مدى أربعين سنة وأكثر، فهو في الخطاب السياسي والإعلامي للحزب مجرّد أضرار جانبية يمكن تعويضها. المباني ستُبنى بأفضل ممّا كانت، وكذلك كلّ المنشآت المتضرّرة.
أمّا بالنسبة لحكومة بنيامين نتنياهو فالهدف المباشر للحرب هو عودة المستوطنين إلى الشمال. ومهما دمّرت واغتالت وقتلت في لبنان، فلن تكون منتصرة بنظر الإسرائيليين، لأنّ الهدف العملي المباشر لم يتحقّق بعد. لكنّ الهدف الأبعد مدى من ذلك هو ضمان عدم تهديد مستوطني الشمال مرّة أخرى. ويكون ذلك عبر أمرين: تدمير القرى اللبنانية الأمامية تماماً لمنع عودة السكّان ومن ضمنهم أنصار الحزب، واحتفاظ إسرائيل بحقّ المراقبة والمتابعة والتدخّل لضرب أهداف داخل هذه المنطقة العازلة، وخارجها أيضاً، وجعل هذا الأمر من الشروط الأساسية لوقف إطلاق النار.
الحدّ الأدنى والأعلى
هذا هو الحدّ الأدنى الذي يمكن أن تقبل به إسرائيل، فيما الحدّ الأعلى يلامس القضاء تماماً على الحزب، بكلّ أبعاده العسكرية والأمنيّة والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو أمر متعذّر كما هو ظاهر، ولن يقبل به الحزب كما لن يقبل بالحدّ الأدنى من الاشتراطات الإسرائيلية لوقف الحرب.
أمّا الهدف الاستراتيجي لنتنياهو في الجبهات المتعدّدة المشتعلة حالياً، وفي غزة ولبنان على نحوٍ خاصّ، فهو تغيير المشهد الجيوسياسي في المنطقة، من خلال حصر إيران داخل حدودها الدولية، إن لم يكن تغيير النظام فيها، واستتباعه ليكون في الفلك الإسرائيلي. فالجائزة الكبرى لإسرائيل هي استعادة إيران، ليس كما كانت أيّام الشاه، بل أن تكون حيادية أمام المشروع الصهيوني التوسّعي.
من ضمن هذا المنظور الاستراتيجي للحرب الإسرائيلية الشاملة والطويلة، ينبغي نقل المعركة إلى داخل إيران، وتقويض النظام السياسي فيها، وتدمير مؤسّسات ولاية الفقيه. والطريق إلى ذلك يكون أوّلاً بتحطيم أذرعها في المنطقة تباعاً، إمّا حرباً أو استسلاماً. والخطوة التالية مباشرة هي تجريد إيران من مشروعها النووي، سلماً أو حرباً.
سقوط هيبة النظام
أمّا التداعيات المتوقّعة بعد ذلك، فليس أقلّها اندحار هيبة النظام، وتشجيع معارضيه على التحرّك في كلّ المحافظات، ووضع نظام جديد. وهذا هو الإنجاز المثالي الذي يسعى إليه نتنياهو. وقد نجح حتى الآن في اجتياز نصف الطريق.
لقد تمكّن عبر المماطلة والخداع من إسقاط كلّ محاولات الرئيس الأميركي جو بايدن لوقف الحرب، وإجهاض كلّ مشاريع التبادل والهدنة في غزة، وهو ما أسهم فعلاً في إخفاق المرشّحة الديمقراطية كامالا هاريس، وعودة الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، ومعه حفنة من المستشارين والوزراء الأكثر تأييداً لإسرائيل من الذين كانوا حول بايدن.
يتطلّع نتنياهو لقبض الثمن الغالي، بعد إنجاحه ترامب في الانتخابات، وهو إكمال الطريق نحو النصر النهائي: التخلّص من الدور الإيراني في المنطقة على الأقلّ، والتخلّص نهائياً من فكرة حلّ الدولتين، وذلك في الأقلّ. أمّا الحلّ النهائي كما يراه المتطرّفون في إسرائيل فهو ضمّ الضفة الغربية، وجرف قطاع غزة، لا بمعنى العودة إلى ما قبل اتفاق أوسلو لعام 1993، بل استئناف ما بدأه مؤسّسو إسرائيل عام 1948.
ما هو المطلوب من الحزب؟
أهمّ ما ينبغي على قيادة الحزب في لبنان التدقيق في الأسئلة العميقة التي يتداولها اللبنانيون فيما بينهم، والشيعة خاصة، وإيجاد الإجابات المناسبة لها، لأنّ هذه الأسئلة مهمّة، وقد تضاهي بخطورتها التهديد الخارجي الراهن.
– أوّلاً: من وجهة نظر شيعية بحت، ثمّة قلق كبير على مكتسبات الطائفة، من عهد الإمام موسى الصدر، أي منذ أكثر من نصف قرن، وذلك باعتبار أنّ الحزب هو حلقة أساسية في سلسلة مترابطة من النهوض الشيعي، اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، الذي اتّخذ في زمن الحزب، شكلاً عسكرياً أكبر من قدرة لبنان نفسه، ومن جغرافيته الصغيرة نسبياً. فدمار الحزب قد يصبح موازياً لدمار الطائفة.
صحيح أنّ بعض الشيعة بعد السابع من أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، لم يكونوا مساندين لحرب إسناد غزة، وبات جمهورهم الآن أكثر اقتناعاً بين 17 و27 أيلول المنصرم بعدم صوابيّة الانخراط في “طوفان الأقصى”، إمّا خوفاً من الانتقام الإسرائيلي من الحزب ومن المناطق الشيعية عموماً، أو اعتقاداً بعدم جدوى المعركة بالنسبة لغزة نفسها… لكن وقد ظهر أنّ إسرائيل كانت تخطّط جيّداً لهذه الحرب منذ انتهاء حرب تموز 2006، فنجحت في اختراق “داتا” الحزب، من القاعدة إلى رأس الهرم، عمودياً وأفقياً، وزرعت المتفجّرات في أجهزة البيجر واللاسلكي، وتنصّتت على شبكة الاتصالات الداخلية، وجنّدت العملاء، وأفادت من محصّلة المعلومات الاستخبارية العالمية، وليس من طريق الولايات المتحدة فقط، فإنّ السؤال الأبرز هو: لماذا خاض الحزب نصف حرب مع إسرائيل، ما دام حجم الدمار هو نفسه في كلتا الحالتين؟
المهمّ أنّ الفرصة ضاعت بنظر مؤيّدي الحزب. ولن يكون متاحاً بسهولة استعادة الحزب قوّته كما كانت، ليس عسكرياً فحسب. والنظر الواقعي في هذه الوقائع يفرض قراءات مختلفة للخطاب الحالي، الذي هو متلائم فقط مع الصوت المرتفع للمعركة.
– ثانياً: كانت حرب إسناد غزة الأكثر إشكالية في الداخل اللبناني. فحتى انخراط الحزب في حرب إسناد النظام السوري الحالي، منذ بدايات الحراك الشعبي، إبّان ما سُمّي بـ”الربيع العربي”، كانت مؤيَّدة من أكثر من نصف اللبنانيين، كلّ الشيعة تقريباً ومعهم على الأقلّ أكثر من نصف المسيحيين، لا سيما بعد تحوّل الصراع في سوريا إلى قتال دموي ومرير بين النظام وحلفائه من جهة، والفصائل السورية المسلّحة والجماعات الجهادية الأممية، وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلامية أو داعش.
شرخ عموديّ
أمّا حرب إسناد غزة فأحدثت في البداية شرخاً عمودياً بين المسلمين والمسيحيين. فالشيعة وبعض السُنّة عموماً يؤيّدونها من حيث المبدأ، ويخشون عواقبها. والمسيحيون إجمالاً ضدّها بقوّة، ويحذّرون من نتائجها الوخيمة ليس على لبنان فقط، بل على بقاء الدولة كما هي حالياً.
لكن مع تحوّل الحرب الإسرائيلية، بعد 17 أيلول الماضي، إلى حرب إبادة ضدّ الشيعة ورموزهم وقياداتهم، وحواضرهم، من قرى ومدن في طول البلاد وعرضها، وحتى مراكز الإيواء في مناطق مختلفة غير ذات الأغلبية الشيعية، فقد كان المفترض إعادة النظر في شعار المعركة، ووضع الأولوية لحماية لبنان، بعدما بات إسناد غزة غير ذي علاقة بالمجريات والوقائع.
إسرائيل لا تعمل من أجل لبنان، وإن كانت تحاول خداع اللبنانيين بأنّها تخلّصهم من الحزب عدوّهم اللدود. ولا يهمّ نتنياهو قيام دولة قويّة في لبنان، واستراتيجية إسرائيل في المنطقة تعمل على تجزئة المجزّأ، وتقسيم المقسّم، والمشاريع والخطط معروفة منذ عشرات السنين. وبإزاء الخطر الداهم ليس على الحزب أو الطائفة فقط، بل على وجود لبنان، كان عليه أو ينبغي له طرح خطاب سياسي وطني يجمع معظم اللبنانيين على هدف مشترك، فخطاب قبل الطوفان وأثناءه لم يعد جاذباً حتى لمعظم الشيعة.
قد يكون من المبالغة القول إنّ الحزب انتهى كتنظيم، أو كأيديولوجية، لكنّه بعد الحرب لن يكون نفسه، أو نسخة من الماضي القريب، حتى لو أراد ذلك.
هشام عليوان-اساس