رهان متجدّد على «لحظة ما» تُجبر نتنياهو على وقف إطلاق النار!

الإيرانيون لا يريدون أن يُسلِّموا بهزيمة مشروعهم في لبنان، وبتلقي «حزب الله» (ذراعهم العسكرية الأقوى في المنطقة) ضربة قاصمة من أعلى الهرم إلى أسفله، وشعور بيئته بحالة من الانكسار، ومعها شرائح واسعة من الطائفة الشيعية الذين أضحوا نازحين في مراكز إيواء، ومشرَّدين على الطرق، بفعل ما تتعرَّض له أماكن وجودهم، من الجنوب مروراً بالضاحية الجنوبية لبيروت وصولاً إلى البقاع، ولا سيما الشرقيّ منه.

تُدرك طهران أن سقوط «حزب الله» العسكري، بما يُشكِّله من قوة إقليمية، سيُضعف باقي أذرعها، من سوريا إلى العراق وصولاً إلى اليمن. لذا ما فعلته بعد اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيّد حسن نصرالله وكبار القيادات العسكرية والأمنية والميدانية هو الدخول المباشر لتولي إعادة تنظيم الهيكل القيادي لـ«الحزب» للاستمرار في الحرب الدائرة على أرض لبنان، والتي هي في الأصل حربٌ إيرانية – إسرائيلية. وتتسم المحاولات الإيرانية، من خطاب المرشد الأعلى علي خامنئي في تأبين نصرالله في طهران، إلى مجيء وزير الخارجية عباس عرقجي، فزيارة رئيس مجلس الشورى محمد باقر قاليباف، بسعي حثيث لشدِّ عصب مقاتلي «الحزب» وجمهوره، والإمساك بزمام الأمور منعاً لانهيار كان حتمياً، فضلاً عن محاولة تقديم إيران نفسها مرجعاً للطائفة الشيعية في لبنان، وصاحبة النفوذ السياسي فيه.

في قراءة أحد منظري محور إيران، أن العقيدة العسكرية المسماة «الصدمة والترويع» والتي تعتمد على المفاجأة واستعراض القوة وشل قدرات ومعنويات العدو، استخدمها الجيش الإسرائيلي ضد «حزب الله» بدءًا بعمليتَي تفجير أجهزة «البيجر» و«اللاسلكي» وصولاً إلى اغتيال الأمين العام لـ«الحزب» حسن نصرالله. وكان يُفترض أن تؤدي تلك الحرب في توقيتها إلى السقوط الكامل لـ«الحزب» لكن «القطوع» مرّ، وساهم التدخل السريع لطهران باستعادة «الحزب» لقدر كبير من التوازن الذي فقده باغتيال قائده، واستهداف الكم الكبير من قياداته، وتسرُّب الذهول والانهزام إلى نفوس المقاتلين والبيئة الحاضنة له. ودليل منظري المحور على ذلك هو التماسك العسكري والتصدي الذي يسجّله مقاتلو «الحزب» على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية بعد إعلان إسرائيل عن بدء المرحلة الأولى من الهجوم البري للجنوب، واستمرار إطلاق الصواريخ من لبنان باتجاه الشمال الإسرائيلي، والاستهداف المقصود لحيفا، وتأكيد القدرة على ضرب تل أبيب.

ماضون في المعركة

يحاول «حزب الله» أن يُظهر جهداً استثنائياً بأنه على طريق التعافي. ثمة حاجة لديه إلى مخاطبة قواعده وبيئته وجمهوره في لبنان، وفي «ساحات المحور» التي كان نصرالله ناطقاً باسم أذرعها، وطمأنتهم بأنهم لم يخسروا في لبنان وفلسطين، وأنهم ماضون في هذه المعركة. كان كلام «السيّد» بالنسبة لحاضنته مُنزَّلاً، يؤمنون به إيماناً مطلقاً، يعدهم بالنصر دائماً. يقول لهم إن إسرائيل «أوهن من بيت العنكبوت». ما كانوا يتصورون أن «تسونامي» بنيامين نتنياهو سيضرب «الحزب» بين ليلة وضحاها، وأن نكبة لا تشبه أي نكبة ستصيبهم دفعة واحدة.

سيضطرون إلى مغادرة قراهم على عجل تحت وطأة القصف الإسرائيلي المجنون، سيمضون ساعات على الطرق، سينامون في العراء وسط غياب كليّ لمنظومة «الحزب» الذي كانوا يؤمنون بأنه حاضر على الدوام لرعايتهم وحمايتهم ومدّهم بالعون. لم يكن يوماً إيمانهم بالدولة ولا بالشركاء في الوطن. كان لسان حالهم أن السلاح جعلهم طائفة مميزة بين الطوائف اللبنانية وفوق القانون.
إنها المأساة التي حلَّت اليوم بالطائفة الشيعية، لكنها في الواقع مأساة يعيشها اللبنانيون منذ زمن، حيث غياب الدولة فاضح، ومؤسساتها عاجزة ليس فقط بفعل الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي المريع، بل بفعل هيمنة «الدويلة» على الدولة، وفائض قوة السلاح الذي أمسك بكل مفاصل الحياة نتيجة التحالف بين المافيا والسلاح، وسيطرة «حزب الله» على القرار السياسي وعلى قرار السلم والحرب وتعطيله المؤسسات الدستورية، حيث لا رئيس جمهورية إلا بموافقته، ولا حكومة الا بمشيئته، وبفعل تحويل لبنان إلى ورقة لمصلحة النفوذ الإيراني على طاولة المساومات الإقليمية والدولية.
فما يصيب لبنان اليوم من هجوم لسلاح الجو الإسرائيلي ومن غزو بري لن يقتصر على منطقة وعلى مكوِّن وعلى جغرافيا من دون أخرى. وإن اقتصر على ملاحقة «حزب الله» لضرب قدراته العسكرية وبنيته العسكرية والاقتصادية والمالية لاجتثاثه وفق ما تقوله تل أبيب، فإن تداعياته لا تقف عند حدود «الحزب» بل تطال اللبنانيين عموماً. دمرت الآلة العسكرية الإسرائيلية قرى حدودية وسوَّتها بالأرض، وشنَّت آلاف الغارات على منازل كوادر وعناصر ومناصري «الحزب»، وعلى مواقع ومخازن أسلحة له في مناطق عدة، وفي الضاحية الجنوبية – معقله الرئيسي، وستعمل القوات الإسرائيلية في غزوها البري على تدمير شامل وتحويل القرى والبلدات إلى أرض محروقة. حتى الساعة، لا تستهدف البنية التحتية للدولة، ولكن لا شيء مؤكداً في الغد.
والأخطر أنّ موجة النزوح، التي تخطت المليون نازح، ستُشكّل عبئاً غير مسبوق على المجتمعات المضيفة، وستشتد الأزمة مع ضعف قدرات الدولة في الاستجابة لحجم الكارثة التي ستتفاقم مع توسُّع العمليات العسكرية الإسرائيلية، وستفضي إلى خلق توترات وإشكالات بدأت ملامحها تظهر هنا وهناك، وستؤول إلى فوضى داخلية، الأمر الذي سيستدعي إعلان حالة طوارئ في البلاد. وكان على السلطة السياسية، وفق مراقبين، أن تتخذ هكذا قرار تجنباً للوقوع في المحظور، وليس بعد الوقوع به وانتشار حال الفوضى.

أرقام رسمية

في الأرقام الرسمية الصادرة عن هـيئة الطوارئ، وصل عدد الشهداء – منذ أن انخرط «حزب الله» في «حرب الإسناد» لغزة في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023 – إلى 2229 شهيداً، وعدد الجرحى إلى 10380 جريحاً. وتمَّ منذ 23 أيلول/سبتمبر فتح 1032 مركزاً لاستقبال النازحين، وتمَّ تسجيل 187000 نازح في تلك المراكز التي هي في غالبيتها مدارس رسمية. وتعمل الدولة على تحضير مجمّعات لتحويلها إلى مراكز إيواء جديدة، لكنها لن تكون قادرة على الاستجابة الكاملة نظراً إلى كبر الكارثة والعجز في قدراتها، وعسر المساعدات الآتية من الدول الداعمة للبنان.

والأزمة الفعلية تكمن في سياسة الحكومة التي تماهى رئيسها نجيب ميقاتي مع «حزب الله» في ربطه وقف جبهة الجنوب بوقف الحرب في غزة، فيما كانت القوى السياسية المعارضة تعيش حالة انتظار من دون فعل مؤثر لرفضها الحرب التي تفرَّد بها فريق على حساب كل اللبنانيين.

جاء الفرنسيون والأمريكيون بنصائح للبنان بوقف الحرب والعودة إلى تطبيق القرار الدولي 1701 وانسحاب مقاتلي «الحزب» إلى شمال نهر الليطاني بغية عودة سكان المستوطنات في الشمال الإسرائيلي إلى منازلهم، وأيضاً بغية عودة سكان لبنان إلى قراهم الحدودية. فخلال السنة الأولى من عمر «حرب الإسناد» وصل عدد النازحين الجنوبيين إلى ما يزيد على مائة ألف نازح، غادروا بلداتهم وقراهم إلى مناطق جنوبية كانت آمنة وإلى الضاحية الجنوبية، وكان حينها «حزب الله» يحتوي العائلات المهجّرة عبر مساعدات مادية للإيجار ومساعدات عينية. ووُضعت المعطيات في يد كل من ميقاتي وبري ونصرالله عن نوايا إسرائيل التدميرية وبنك الأهداف الذي لديها، لكن مصلحة إيران كانت تقتضي بقاء الربط بين لبنان وغزة، وكان «حزب الله» مقتنعاً بأن الحرب لن تتوسَّع، ولن تخرج عن قواعد الاشتباك بحدود كبرى، وأن أمريكا لن تسمح لإسرائيل بشن حرب واسعة على «الحزب» منعاً لتحوّلها إلى حرب إقليمية شاملة، ذلك أن القناعة الراسخة لدى قيادة «حارة حريك» كانت أن إيران لن تترك ذراعها الأقوى (درّة التاج) وحيدة في المعركة، بل ستتدخل لصالحها ومعها «ساحات المحور».

باتت الحكومة اليوم، وبري الممثل السياسي لـ«حزب الله» في التفاوض ومن خلفه إيران، يقبلون بفصل لبنان عن غزة، وباتت أصواتهم تصدح بأن لبنان ملتزم بتطبيق الـ1701 وبنشر الجيش اللبناني على الحدود وبانسحاب مقاتلي «حزب الله» إلى حدود نهر الليطاني بما يجعل منطقة جنوب الليطاني خالية من أي سلاح غير شرعي. لكن أحداً لا يريد أن يسمع في الوقت الراهن. خسر لبنان فرصة كانت موجودة لحل دبلوماسي تقيه شر الحرب المدمرة. فنتنياهو ماضٍ في الحرب على الجبهة الشمالية التي تلقى دعم الإسرائيليين، ولن يخسر الفرصة التي لاحت أمامه في تقويض قوة «حزب الله» بالنار، قبل أن يأتي وقت الجلوس إلى الطاولة لحلول تؤمِّن الاستقرار الفعلي على مدى عقود آتية وليس حلولاً مؤقتة تمهد لحرب جديدة.

سيُبح صوت لبنان وهو يطالب بوقف إطلاق النار، والذي لن يجد له مكاناً في الأسابيع الفاصلة عن الانتخابات الأمريكية في الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر ومعرفة هوية ساكن «البيت الأبيض». رهان «حزب الله» على «لحظة معينة» تشكل استدارة لنتنياهو، حين يتأكد الرجل أن الاستنزاف الصاروخي على إسرائيل مُوجع، وأن عبور الحافة الحدودية أو تحقيق إنجار يُعتد به سيكون مكلفاً، وأن غزة ليست لبنان نظراً لواقعه الجغرافي والمدى الحيوي الذي يتمتع به «الحزب» وحيازته على إمكانات تسليحية ضخمة، رغم ما تعرَّض له من ضربات، وشراسة قتالية لقوات النخبة لديه، ونظراً إلى أن قدرة إسرائيل على الاستمرار بحالة الاستنزاف الطويلة وبتحمل سنة جديدة من الضغط الاقتصادي والانفجار الاجتماعي، وتراجع التصنيف الائتماني العالمي لها، والأهم أن جيشها مرهق حيث تنتشر فرق خمس منه على الحدود، وهو على أبواب الشتاء.

إنها السردية التي كانت غالبة منذ أيام الحرب الأولى في قطاع غزة، الذي أضحى بعد سنة من القتال غير قابل للحياة والعيش فيه. وعادت لتتردد من جديد، متوقعين أن تكون النتائج مختلفة.

رلى موفق- القدس العربي

مقالات ذات صلة