بعد إندثار أوهام القوّة و”الحزب الذي لا يُقهر”: ماذا يريد الشيعة بعد نكبة 2024؟

ما حصل مع الطائفة الشيعية الكريمة في الشهرين الفائتين لا يُمكن أن يوصف إلا بالنكبة، وهذا أمر واقع لا يُمكن تجاهله بعد الضربات الاسرائيلية المدمّرة لـ”حزب الله”، لكن هذا لا يعني أن “الحزب” يختزل الطائفة برمّتها، إنما لا بد من الاعتراف بأن الشيعة هم الأكثر تضرراً من خيارات “الحزب” منذ 8 تشرين الأول 2023 وحتى اليوم، إضافة إلى تداعيات هذه الحرب على كل الشعب اللبناني بمختلف مكوّناته الطائفية والسياسية.

لا يختلف إثنان على أن “الحزب” وحركة “أمل” يمثلان أكثر من 75 في المئة من الشيعة اللبنانيين، وهذا عدد لا يُمكن الاستهانة به. هؤلاء شاهدوا منذ شهرين وحتى اليوم كيف ينهار “الحزب”، الذي غالباً ما تباهى بمقاومته الحديديّة والانتصارات الالهية، على صعيد رأس القيادة الذي تمّ اغتياله، فتصفية نخبة مقاتليه، مروراً بتدمير بنيته التحتيّة، وصولاً إلى نزوح مليون و400 ألف نازح نحو المناطق الأكثر أماناً.

يُمكن وصف هذه المشهديّة بالـ”هولوكوست” نظراً إلى ضخامتها وتداعياتها الكبيرة على المشهد اللبناني سياسياً وعسكرياً وشعبياً، ومهما حاول “الحزب” تجميل هذه الصورة ببعض العمليات الحربيّة على الحدود الجنوبية والايحاء بأنه يقتل الجنود الاسرائيليين، يشعر الشيعة بالهزيمة والانكسار بعد إندثار أوهام القوّة و”الحزب الذي لا يُقهر” والقدرة “الخيالية” على “إزالة اسرائيل” و”رميها في البحر”، كونها “أوهن من بيت العنكبوت”، فتبيّن لهم أن كل هذه السرديّة لم تكن سوى شعارات واهية.

طبعاً الصدمة كبيرة، وليس من المتوّقع أن يخرج منها الشيعة سريعاً، وخصوصاً أن الحرب لا تزال مستمرة، وهدف اسرائيل والولايات المتحدة الأميركية تفكيك البنية العسكرية لـ”الحزب” نهائياً، فيما كان ينتظر الشيعة ترجمة معادلة “وحدة الساحات” عبر دعم ايراني فاعل والدفاع عن “الحزب” ومنع اسرائيل من تدميره كما تفعل اليوم.

لكن في الواقع، يسيطر الذهول على هؤلاء بعدما شعروا طوال أعوام بفائض القوة، حتى ولو كانوا من خارج بيئة “الحزب”. لا شك في أن اغراء “القوّة” دغدغ مشاعرهم ووجدانهم، وغيّر موازين القوى السياسية لمصلحتهم منذ العام 2005 وحتى اليوم، ولو بأعمال “بلطجيّة” واغتيالات وممارسات أمنية مثل 7 أيار 2008 وغيرها، وبقدر ما كان فائض القوة كبيراً كانت الصدمة أكبر، وحتماً ما حصل يحتاج إلى وقت طويل لقراءته واستخلاص الأخطاء الاستراتيجيّة التي حصلت من “الحزب” ورهانه المستمر على إيران.

اليوم، يعيش الشيعة حائرون، ضائعون، مربكون، ينتظرون من ينتشلهم من النكبة الكبيرة التي حلّت بهم، على الرغم من أن البعض لا يزال يعوّل على “حزب الله” وقدرته على المقاومة، علماً أن لا وجود لتوازن القوة بينه وبين الاسرائيليين، وهذا ما أثبتته الوقائع. لذلك لا يشعر كثر من الشيعة أن “الحزب” لا يزال قادراً على حمايتهم بعدما تهدّمت بيوتهم وأحرقت أراضيهم وقُتِلَ أحباؤهم.

لا شك في أن هناك فراغاً هائلاً اليوم على صعيد الطائفة الشيعية، وهذا الفراغ مرّشح للإتساع مع فقدان “الحزب” التدريجي إمكاناته وسط تصميم اسرائيل على إنهاء هذه “الأسطورة”، لذلك تتجه الأنظار إلى المسؤولين اللبنانيين الرسميين الذين يعتبرون ممثلين للدولة اللبنانية، إلا أن هؤلاء لا يبدون مؤهّلين لملء الفراغ نظراً إلى عقدة “الخوف” من “الحزب” وراعيه الايراني، لذلك وضع المجتمع الدولي أولويات الخروج من هذه الأزمة بإنتخاب سريع لرئيس الجمهورية الذي يتوجّب عليه بناء الهرم الدستوري مجدداً وجعل البنية السياسية قوية ومستقلة، وتفعيل دور الجيش اللبناني ليكون البديل الحقيقي عن “الحزب” بالنسبة الى الشيعة، علماً أنه يجب أن يكون الأصل والأساس، لا البديل، لأن المؤسسة العسكرية الشرعية التي يتفق عليها جميع اللبنانيين، تضم عناصر وضباطاً من كل الطوائف، وبالتالي يصلح الجيش أن يكون الحضن الدافئ للشيعة في هذه المرحلة الصعبة.

ويتحدث معارض شيعي لـ”حزب الله” عن أن تأخير حكومة تصريف الأعمال في إعلان موافقتها على تطبيق القرار 1701 وإرسال الجيش إلى الجنوب لتأمين الحدود، سيزيد المشهد تعقيداً، بحيث سيزداد ضياع الشيعة وإرباكهم، لأن اسرائيل ستحتل المزيد من القرى جنوباً، وسيفقد هؤلاء الثقة بالجيش كما فقدوها بـ”الحزب”.

ويعتبر المعارض أن مهمة الجيش اللبناني تبدأ، قبل توجهه إلى الجنوب، بالتعامل الوطني والانساني مع النازحين، فيكون لهم السند والسلاح الذي يمنع اسرائيل، من احتلال أراضيهم وبيوتهم، وهذا الأمر يحتاج إلى قرار جريء من المسؤولين اللبنانيين الرسميين والمجتمع الدولي.

إذا نجحت القوات المسلحة اللبنانية في هذه الحملة لبناء الثقة، فسوف يكون الشيعة أكثر ميلاً للعودة إلى الدولة اللبنانية الحقيقية. علماً أن هذه البيئة معبأة وعدائيّة ضد اسرائيل بسبب الصراع الطويل معها في الجنوب، وقد تكون فرصة للجيش اللبناني لكسب شعبية لدى هذه البيئة التي اعتمدت على سلاح “إيراني” على مدى أعوام لمواجهة اسرائيل.

ويرى المعارض الشيعي أن مهمة الجيش ليست الانتشار في الجنوب فقط، انما مهمته ستكون أساسية في الأماكن المختلطة التي قد تشهد عنفاً طائفياً، لأن تفكك “الحزب” تنظيمياً قد يؤدي إلى انتشار العصابات المسلحة.

ويتذكر المخضرمون الشيعة الذين عاشوا تجربة الاحتلال الاسرائيلي عام 1982 أن اسرائيل لم تكتفِ باحتلال الجنوب آنذاك، بل تقدّمت إلى عمق لبنان ووصلت إلى بيروت، وهذه السرديّة اعتمد عليها “الحزب” لاحقاً ليشرّع مقاومته وعملياته العسكرية وتخزين السلاح، لذلك ترك اسرائيل تتمادى في غزو الأراضي اللبنانية، يُفقد ثقة أهل الجنوب وأكثريتهم من الشيعة، بكل مقوّمات الدولة، وهذا أمر خطير يجب الانتباه إليه، ومن الضروري التحرّك سريعاً من أجل تطبيق القرار 1701 بكامل مندرجاته، وإلا سيدخل لبنان والشيعة في المزيد من الفوضى.

واللافت أن العائق الأساسي اليوم أمام تطبيق القرارات الدولية وانتخاب رئيس للجمهورية هو إيران التي أرسلت وزير خارجيتها عباس عراقجي ليُفشل المبادرة الأميركية والدولية واستعداد القوى السياسية اللبنانية لإنتخاب رئيس.

يرفض النظام الإيراني التخلي عن “الحزب”، ويحاول إعادة بنائه من خلال ضبّاط ايرانيين يعيّنون قادة ميدانيين جدداً، ويحرصون على تدريبهم وتأهيلهم بسرعة للإمساك بالأرض، وهنا السباق بين إعادة تعويم “الحزب” وتكليف الجيش اللبناني بالانتشار في الجنوب وإعادة القرار الاستراتيجي إلى الدولة اللبنانية بدلاً من أن يكون في إيران.

كل اللبنانيين، وليس الشيعة فقط، بحاجة إلى ديناميكية سياسية تُمسك بزمام الأمور، لا ترك الساحة فارغة لإيران، ولكن حكومة تصريف الأعمال ضعيفة ورئيس مجلس النواب نبيه بري لا يمكنه تخطي “الحزب” والمسيحيون يعلون الصوت، لكن الفاعلية مفقودة لدى الجميع حتى الآن.

في هذا الوقت، تبدو اسرائيل ماضية في حربها والهدف بات نزع سلاح “الحزب”، لذلك ستكون الحرب طويلة حتى يفقد كل مقوّمات الصمود، فيما الحلّ السريع هو أن تبادر واشنطن إلى الضغط الكثيف والفعلي على إيران لنزع ورقة “الحزب” منها، والسماح للبنان بالتنفّس، واستعادة الدولة والعمل بالدستور وتطبيق القرارات الدولية. لكن واشنطن أيضاً منهمكة في الانتخابات الرئاسية ويبدو أن الجميع يلعب بالوقت ضائع حالياً. وهذه مساحة زمنيّة يدفع ثمنها اللبنانيون عموماً والشيعة خصوصاً، ما يزيد في المعاناة والبؤس والموت والفقر حتى إشعار آخر.

جورج حايك-لبنان الكبير

مقالات ذات صلة