النعجة في جلد ذئب والذئب في صوف نعجة:“الاستاذ” وقع في فخين!

“يجب أن نعترف بأن هناك غالباً ومغلوباً في لبنان”

بري… اما البرلمان بطلاً واما الميدان شهيداً!

“يجب أن نعترف بأن هناك غالباً ومغلوباً في لبنان”.

هذا ما قاله رئيس حركة “أمل” وقتذاك نبيه بري وهو يراقب انتشار الدبابات الاسرائيلية في شوارع بيروت، وتوافر الظروف المحلية والاقليمية والدولية لانتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية.

وحده “الاستاذ”، بين معظم الذين عايشوا الحروب اللبنانية منذ الطلقة الأولى، يعرف متى يخبئ رأسه في الرمال ومتى يرفع السيف، ووحده يعرف كيف يكون نعجة في جلد ذئب وذئباً في صوف نعجة.

وليس في هذا التوصيف انتقاصاً من موقع الرجل ودوره وتأثيره على المستويين الوطني والسياسي والمذهبي، بل اضاءة على واقع دراماتيكي في لبنان يعيدنا الى أجواء العام ١٩٨٢وينتظر من نبيه بري موقفاً قد يكون متهاوناً يريد منه اللعب على عامل الوقت، وقد يكون متشدداً يريد منه، اما كسب الأرضية الشيعية الجريحة والمحرجة، واما انهاء حياته السياسية والنضالية كواحد من أبطال مجتمعه، وربما أيضاً انهاء حياته السياسية على غرار حسن نصر الله لكن عبر الاغتيال السياسي.

والواقع أن بري يعرف خطورة ما أصاب “حزب الله” على مستوى القادة والسلاح، وما أصاب البيئة الشيعية كلها، الحزبية منها والعلمانية والمحايدة، ويعرف أنه في غياب حسن نصر الله، بات يدرك حجم الأثقال التي ألقيت على كتفيه، ويدرك أيضاً أن عليه أن يتخذ قرارات مصيرية صعبة، وأن يشرب جرعات من السم تشبه تلك التي تجرّعها الامام الخميني لحظة وافق على انهاء الحرب مع العراق في العام ١٩٨٨.

وقد يسأل سائل ماذا تغيّر في لبنان كي تتوجه الأنظار نحو بري دون سواه، والجواب يعرفه “الاستاذ” وحده هو الذي يدرك أن الحركة العسكرية الاسرائيلية في لبنان لا تختلف كثيراً عن تلك التي أدت قبل ٤٢ عاماً الى اقتلاع ياسر عرفات والمنظمات الفلسطينية من لبنان والى سحب الجيش السوري من القسم الغربي من بيروت نحو سهل البقاع بعد وساطة بذلها الوسيط الأميركي فيليب حبيب مع اسرائيل والولايات المتحدة.

شيء واحد يختلف عن تلك الفترة، ويتمثل في أن المطلوب تحجيمه أو سحب سلاحه أو حتى القضاء عليه هو فصيل لبناني ايراني الهوى والانتماء ويمثل النصف الآخر من المجتمع الشيعي أي “حزب الله”، وهو الفصيل الذي التصق به بري في السراء والضراء اما لأسباب مذهبية فرضتها الموجة الشيعية المتصاعدة، واما لخوف من مصير واجهه من قبل معارضون أو متميزون، واما لحرص على عدم تحريك الشارع الشيعي في حرب الغاء دامية غير متكافئة.

ويتردد في عين التينة، أن بري يستهول حجم المسؤولية التي تولاها بين ليلة وضحاها، خصوصاً أنه مدين بالموقع الذي يشغله منذ العام ١٩٩٢، لمحور الممانعة وتحديداً لتفاهم شيعي – سوري باركته طهران في البداية وتبنته بعد خروج السوريين من لبنان.

وتشير أجواء عين التينة أيضاً، الى أن بري مقتنع الى حد كبير بأن “حزب الله” لن يتمكن من الصمود طويلاً، وأن الكلمة الفصل ستكون لاسرائيل عسكرياً وللولايات المتحدة سياسياً، وأنه لم يعد قادراً على التلطي خلف حسن نصر الله في المحطات المصيرية الكبرى، ولا خلف الرئيس بشار الأسد المنعزل في دمشق عن كل ما يتعلق بمسارات الصراع الايراني مع كل من اسرائيل وأميركا، اضافة الى أمرين أساسيين آخرين، الأول أنه ليس بديل نصر الله أو هاشم صفي الدين في التركيبة القيادية الايرانية، والثاني أن حركة “أمل” ليست قادرة على الحلول محل “حزب الله” في الميدان ولا في تشكيل الضغط اللازم لانتزاع هدنة من تل أبيب وتنازلات من واشنطن.

وليس سراً أن ما يعانيه الرجل يعود في قسم كبير منه الى انغماسه في شكل بعيد في مغامرة “حزب الله” في الثامن من أكتوبر وفي عملية الربط بين لبنان وغزة، وفي تعطيل الانتخابات الرئاسية اللبنانية، والعمل لفرض مرشح الممانعة بأي طريقة، وهي كلها أمور نزعت عنه صفة المقرر المستقل في مفاوضاته مع الموفد الأميركي آموس هوكشتاين، وحوّلته الى مجرد ساعي بريد منحاز بين الضاحية الجنوبية وكل من تل أبيب وواشنطن.

وتقر مصادر قريبة من عين التينة، بأن بري لم يتوقع مطلقاً أن تفلت الأمور من ضوابطها وتتحول الى حرب ابادة إن لم يكن حرب استئصال، معتقداً، في كواليسه، أن نتنياهو يريد رأس نصر الله وحسب وليس جميع الشيعة وبينهم شيعة “الحركة”، مشيرة الى أن لسان حاله الآن يقول: ماذا يمكن أن نفعل قبل أن يمتلئ الكأس بالسم عن آخره؟

والجواب هنا، أن بري يعرف تماماً أنه فقد كل مظلات الحماية التي كان يحظى بها في السنوات الأربعين الماضية، فهو فقد مظلة الأسد عندما رفض إرسال رجاله الى سوريا للدفاع عن النظام، وفقد المظلة الوطنية، وتحديداً المسيحية، عندما تعامل مع انتخاب رئيس للجمهورية كما يتعامل مع توظيف ناطور في مبنى، وفقد المظلة العربية، عندما راح يتفرج على التحديات التي كان يطلقها نصر الله نحو السعودية ودول الخليج، وفقد المظلة العربية – الدولية عندما انضم الى “المقاومة الاسلامية” في غزوة بيروت في السابع من أيار.

وعلى الرغم من أن كل هذه المطبات كانت تعلو وتهبط بفضل خبرته وقدرته على تدوير الزوايا، الا أن الوضع الآن لم يعد يسمح بالمناورة والالتفاف على الحلول التي تعرض من هنا وهناك، فهو يقف الآن أمام واحد من خيارين بعدما بات شعبه مشرداً ومحبطاً ومقهوراً، وبعدما باتت فرص الصمود أمام الآلة العسكرية الاسرائيلية المتوحشة شبه معدومة، وبعدما باتت القدرة على اغتيال أي شخصية قيادية وأمنية ومالية واستخبارية وسياسية شيعية أو فلسطينية أمراً يفوق الخيال، الخيار الأول أن يقود السفينة الشيعية المترنحة وحيداً، وهو أمر لم يكتمل فصولاً بعد بين أتباع ولي الفقيه، واما اعتلاء هذه السفينة والقبول بأي مصير يطاول شعبه وبيئته سواء غرقاً أو عوماً.

ويكشف مصدر ديبلوماسي عربي أن بري حاول اللجوء الى السعوديين لايجاد مخرج يحميه أولاً، ويمنع لبنان ثانياً من العودة الى أجواء العام ١٩٨٢، فكان جواب الرياض: افتح البرلمان واسمح بانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة وطنية متسلحة بقرار وطني يتبنى فصل لبنان عن غزة ويطبق القرار ١٧٠١ بكل مندرجاته، ويعيد لبنان السياسي الى جذوره العربية بعيداً من أي محاور تبقيه في الميدان.

تلقف بري الجواب العربي وجمع الرئيس نجيب ميقاتي ووليد جنبلاط، ليطلق السير بهذه الشروط معتقداً أن الساحة باتت خالية لهم مع انشغال “حزب الله” بحماية رؤوسه وسلاحه، قبل أن يدرك أنه وقع في فخين، الأول الفخ المسيحي الذي رفض منحه الغطاء الوطني الذي يحتاج اليه لانتخاب رئيس توافقي، بعدما لمس بعض المسيحيين تحولات قد تسمح بانتخاب رئيس من الصقور، والفخ الايراني الذي حطّ في بيروت على عجل ليضع الأقطاب الثلاثة أمام معادلة واحدة وحاسمة وهي: لم نخسر الحرب ولن نخسرها، ولم نهدر كل هذه الأموال ونبذل كل هذه التضحيات والطاقات على مدى أربعين عاماً، كي ننسحب من لبنان مهزومين على غرار ياسر عرفات وبشار الأسد واسرائيل في العام ٢٠٠٠، وكي نراه في قبضة رئيس لم يخرج من رحم “الثورة الاسلامية” في طهران، أو فريق يعيد ايران الى حدودها الطبيعية بعيداً من جنوب لبنان وحدوده مع الدولة العبرية.

الثلاثي بري – ميقاتي- جنبلاط، لم ينتفضوا على وزير الخارجية الايراني عباس عراقجي، وآثروا الصمت في مكان ورمي الكرة في حضن بكركي في مكان آخر، بعدما لمسوا من الفريق السيادي موقفاً لا يقبل بالحلول الوسط أو على الأقل بالحلول التي ترضي محور الممانعة ولو من تحت الطاولة.

والسؤال هنا لماذا لا يفتح بري مجلس النواب ويضع الجميع أمام مسؤولياتهم بدل الترنح تحت حمل ثقيل ومفخخ لا يقوى عليه؟

الجواب ربما يستند الى أمرين، الأول أن بري لا يستطيع أن يقف في مواجهة ايران ومن بقي من رجالها في لبنان، خوفاً من حرب شيعية – شيعية، والثاني أنه لا يقبل مجدداً برؤية وضع يضطره الى تكرار ما قاله قبل اثنين وأربعين عاماً، أي نظرية الغالب والمغلوب، وهما أمران يحاول جاهداً إبعادهما عن كأس السم الذي يحمله بين يديه.

في اختصار، انه زمن الشدة الذي يحتاج الى بطل خارق، وهو أمر يقول ديبلوماسي عربي إنه لا ينطبق على “بري المناور ولا على ميقاتي المائع ولا على جنبلاط المتلون، ولا على بكركي المهمّشة”، مشيراَ الى أن مصير لبنان متوقف على خيارين: اما لجوء بري الى البرلمان والخروج منه بطلاً واما البقاء في الميدان والخروج منه شهيداً أو أسيراً.


انطوني جعجع-لبنان الكبير

مقالات ذات صلة