أكثر من اشتباك أقلّ من حرب: الاستنهاض العاطفي لا يحصّن جبهة ولا يقارع عدوّاً
القتال على الحدود اللبنانية مع إسرائيل، تجاوز قواعد الاشتباك المعمول بها منذ شهور عدّة. التجاوز العملي للقواعد، لم يصل إلى حدّ تجاوز التوافق السياسي حولها، فالطرفان اللبناني والإسرائيلي حَرِصا على مرجعيّة الاتفاق النصّية، لكنهما أسقطاها جوهريّاً في ميدان المعارك اليومية.
تقادم قواعد الاشتباك بعد أن طالت الحرب في غزّة، رافقه تهاوي التقديرات السياسية التي سبقت اندلاع شرارة الحرب. لقد سقط الاعتقاد “العربي” الذي راهن على قِصَر النفس الحربي الإسرائيلي، الذي اعتاد الحرب الخاطفة، التي يحضر فيها ضغط العامل الاقتصادي، والعامل الدولي، وحساب الخسائر البشرية. ما حصل وما استمر حتى الآن، انتقال العقيدة القتالية الإسرائيلية، ومعها مجتمعها، إلى حرب طويلة النفس، يضع “قائدها” في حساباته، حجم الكلفة المادية العامّة التي تفرضها هكذا حرب، وينتدب نفسه لحمل مسؤوليتها.
توازياً، سقط الافتراض الإسرائيلي المبني على التفوق العسكري الحاسم، وعلى ضيق ذات اليد الحربية للمقاتل الفلسطيني، الذي سيسهل إلغاؤه، بالقتل أو بالأسر أو بالاستسلام.
ما حصل وما استمر هنا أيضاً، كان الصمود الشعبي، والاستبسال القتالي، والتعالي على حجم الخسائر الهائل الذي نزل بغزّة البشر، وبغزّة الحجر.
المفاجأة شبه الكاملة، كانت حصيلة سقوط الفرضيات المتبادلة، مما أتاح، وبدرجة مفهومة، إحالة الفرضيات إلى صفة الأوهام، أو الأحلام التي قادت خطى المتحاربين. فرضية النصر الحاسم، تكشفت عن وهم، وفرضية التعب من طول الحرب، انكشفت عن وهم أيضاً، الوهم الذي راود خيال المخطط الإسرائيلي، والمخطّط الفلسطيني، راود خيال المخطط اللبناني، الذي سارع إلى الانضمام إلى معركة “وحدة الساحات”، طلباً للمشاركة في نصرٍ ظَنّه قريب المنال.
بعد سنة من عمر الاشتباك، تحرّكت خطوط التماس في الميدان الفلسطيني وفي الجغرافيا اللبنانية. غزّة التي كانت رقعة محرّرة في فلسطين، عادت لتسقط في يد الاحتلال، ولا يلغي هذه الواقعة، الاشتباكات اليومية التي ما زالت تشهدها الأحياء الغزاوية.
على هذا الصعيد، التمييز واضح بين قدرة العدو، المتفوق قتالياً، على احتلال بلدٍ ما، وبين عدم قدرته على كسر أعمال المقاومة فيها، هذا مما يعرفه اللبنانيون جيّداً، ومما عرفه الأفغان، ومما عرّفه العراقيون… بعد أن سيطر الاحتلال على أوطانهم.
في لبنان، صار التماس جويّاً وبحريّاً، بعد أن كان بريّاً لفترة طويلة. وها هو انتقل ليكون “تقنيّاً” قاتلاً، بعد الاجتياح التقني المعادي، لوسائل الاتصال والسيطرة لدى المقاومة الإسلامية اللبنانية.
إذن، وعلى أكثر من صعيد، صارت قواعد الاشتباك المعمول بها “افتراضيّاً”، مجرّد اتفاق متبادل، على العمل في ظل قواعد جديدة، يعطيها الطرفان اسماً قديماً، هو في الحقيقة قبول مشترك بالارتفاع قليلاً فوق حالة الاشتباك العتيقة، وبالنزول قليلاً تحت حالة الحرب التي يحاذر الإسرائيلي واللبناني، حتى تاريخه، إشعال نيران خرابها.
ثمّة جديد يتنامى وترتسم ملامحه، يتمثل في تفاوت درجة الحذر من اتساع ميدان المواجهة، بين إسرائيل والمقاومة، هذا الجديد تقف خلفه عوامل تعطي العدو تفوّقاً ميدانيّاً بات ملموساً لجهة المساحات التي يغطيها، ولجهة الخسائر التي يوقعها في صفوف أطراف “وحدة الساحات” اللبنانية وغير اللبنانية.
لقد توّج الجديد “السيبراني” القديم الميداني، وهذا تطور يدعو إلى الوقوف مليّاً أمام تداعياته، ويدعو إلى قراءته ضمن إطار انعكاساته الداخلية اللبنانية، وفوق أرضه الداخلية الإسرائيلية.
على الضفة اللبنانية، الانقسام حول الحرب بصورة إجمالية، لا يخفى على ناظر، ولا على مراقب، يقابل ذلك مزاج إسرائيلي رسمي وشعبي، يميل إلى شنّ حرب على لبنان.
صورة الإطارين تستدعي تدقيقاً مسؤولاً يعيد ربط حاضر الصورة بماضيها. مقارنة لحظة التحرير عام 2000، بلحظة الدعوة إلى إعادة احتلال أجزاء من الجنوب تظهر اختلافاً واضحاً بين اللحظتين. في العام ألفين، رجحت مقاربة الانسحاب، بعد أن توصل المسؤول الإسرائيلي إلى خلاصة هي “إن كلفة البقاء أعلى من كلفة الانسحاب”. الخلاصة جاءت نتيجة أعمال المقاومة اللبنانية، ونتيجة تنامي رأي شعبي إسرائيلي يرفض ديمومة الاحتلال. تكاد اللحظة الحالية تعاكس تلك البعيدة، لجهة حساب الكلفة، فكما سبق القول تحوز الدعوة إلى احتلال جديد يعيد الأمن إلى المستوطنات، على أغلبية شعبية، وفق المعلومات المنقولة من داخل إسرائيل.
في إزاء ذلك، ما الخلاصة اللبنانية الأهم، في ظل الظروف السياسية والميدانية المعروفة؟.
حيال الداخل اللبناني، من الضروري سيادة خطاب مسؤول يسعى إلى تجنّب تقديم المبرّر للعدو، لكي يستثمر في عدوانه، ولكي يحقق مكاسب قديمة، جديدة، على خلفية “توراتية” مستحضرة، أو على خلفية توسعية حاضرة. هذا يتطلب سياسة تخفيض اشتباك غير معلنة، لكنها ملموسة، ويحيد عن مواقع الاستهداف الحالية، صوب المناطق التي يشملها تعريف مزارع شبعا، وما هو محتلّ حتى تاريخه من أرض لبنانية. باختصار: سحب ذريعة المستوطنين سياسة صائبة اليوم، وعامل رئيسي في تعطيل عجلة العدوان المنفلتة من كوابحها.
هذا على الحدود، أمّا على صعيد الجبهة الداخلية، فالمطلوب خطاب تسووي هادئ، يدعو الآن إلى صياغة معادلة حلحلة وفاقية، تبدأ بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وتمضي إلى إعادة ملء المؤسسات المفرغة من أهلها ومن صلاحياتها.
السياسة المطلوبة من المقاومة على جبهتي الحدود الخارجية، والحدود الداخلية، يجب أن تكون موضع اهتمام لدى المعارضة الداخلية. جوهر الاهتمام، أو سياقه، خلق مناخ “احتضان” يلاقي المناخ المستجد لدى “أهل المقاومة”، فتصير اللغة بعيدة عن منطق الإيحاء بالغلبة، أو الإيحاء باستثمارها، وقريبة من وضوح منطق الإنقاذ الوطني العام الذي يضع نصب اهتمام سياساته، النجاح بإبعاد لبنان الجغرافيا والديمغرافيا، عن الأخطار الشديدة التي تتهدّد مصيره.
ختاماً: المكابرة وإنكار الوقائع الجديدة، أمران لا يفيدان في المعالجة، والاستنهاض العاطفي، لا يحصّن جبهة، ولا يقارع عدوّاً.
وفي السياق، نعلم أن المقاومة في لبنان على ارتباط وثيق بإيران، لذلك لا ضير، بل من المفيد، المبادرة إلى تشكل مسار عربي – إيراني يجد لغة مشتركة، تضيف حصانة إقليمية إلى الحصانة الداخلية… اللبنانية، فيصير ممكنا تنفّس الوضع اللبناني نسيم السلامة الوطنية الشاملة.
احمد جابر- المدن