عمليّة “البيجر” و”اللاسلكي”: أميركا نصحت وإسرائيل نفّذت… وشحنة الأجهزة استُبدِلت في الطريق

الأميركي شريك لإسرائيل

ما يوصف بالخيال العلمي سينمائياً يصبح واقعياً في الكثير من المجالات، ومنها العسكري، فيتسبّب بآلامٍ ومآسٍ. هذا ما شهده لبنان المصدوم، الثلاثاء والأربعاء الماضيين، باستخدام إسرائيل الوسائل التكنولوجية الحديثة ضدّ الحزب.

الحصيلة هي انكشاف الحزب، القوّة العسكرية المهيبة، أمنيّاً، وإصابة هيبة إيران التي طالت تفجيرات “البيجر” سفيرها في بيروت مجتبى أماني. لكنّ لبنان برمّته ازداد انكشافه، بعدما دخلته بطرق غير شرعية أجهزة اتّصال فخّختها إسرائيل مسبّبة مجزرة. ثبت مرّة جديدة أنّ مقتضيات دور الحزب وإيران في البلد توجب تغييب السلطة في أشدّ الأمور حساسيّة وسيادية. اقتصر دور الدولة على تنظيم دخول المصابين إلى المستشفيات، ونقل الرسائل من دول غربية إلى الحزب والشكوى لمجلس الأمن. زعماء كبار يخشون حتى استخدام الهاتف الخلويّ، فيتجنّب بعضهم الردّ على مكالمات نظرائه. وهذه صورة عن العجز الكامل.

يصعب توقّع ما سيعقب الانكشاف بعد مجزرة الثلاثاء والأربعاء ما دام بنيامين نتنياهو يتنقّل بين جبهات غزة والضفة الغربية والجنوب وسوريا. وإذا كان المسار هو إطالة الحرب، بسقف زمني متحرّك، تارة بانتظار انتخابات أميركا وأخرى حتى تحقيق “النصر المطلق”، تبقى الاحتمالات مفتوحة. فالتهديد الإسرائيلي بمرحلة جديدة للمواجهة مع الحزب تحتمل إمكان افتعال حرب، وكذلك خيار مواصلة الضربات التي دأبت عليها إسرائيل منذ 8 تشرين الأول بديلاً عنها. أمّا توعّد الحزب بالردّ على مجزرة أجهزة الاتصال فبدا مؤجّلاً.

النّهج الذي يفضّله الأميركيّون

عملية البيجر وأجهزة اللاسلكي نموذج جديد عن الخيار الثاني. وما حصل ليل الخميس من عشرات الغارات قال الإسرائيليون إنّها بلغت 70 واستهدفت 50 منصّة (وبعض الأخبار قالت 100) صواريخ للحزب بالجنوب يأتي في السياق نفسه. وأحدث الاستهدافات من هذا النمط اغتيال طائرة إف 35 القائد العسكري للحزب ابراهيم عقيل، الذي حل مكان فؤاد شكر بعد اغتياله في 30 تموز الماضي. حصل ذلك خلال اجتماع عسكري في أحدى طبقات بناء سكني. وذكرت معلومات أن القائد في قوة القدس في إيران الجنرال محمد رضا وعدد من قادة قوة “الرضوان” التابعة للحزب قتلوا في الغارة. وتردد أن عقيل كان خرج صباح أمس من المستشفى بعد إصابة طفيفة جراء انفجار البيجر الذي كان يحمله الثلاثاء الماضي.

هذا النهج هو جوهر النصيحة الأميركية الدائمة لتل أبيب لتجنّب الحرب الواسعة وأيّ عملية برّية في جنوب لبنان. بل إنّ الجانب الأميركي شريك لإسرائيل في كثير من الأحيان في عمليات عسكرية أو أمنيّة خاطفة، وسياسة الأرض المحروقة في الشريط الحدودي. ويرى أنّها ناجعة أكثر من الحرب الشاملة.

بالانتظار، من المحال قياس ما نتج عن مجزرة البيجر والأجهزة اللاسلكية بحصيلة ما سبّبته للحزب ولبنان فقط. فالتفوّق الإسرائيلي المدعوم أميركياً، الذي أقرّ به الأمين العام السيد حسن نصر الله، مارسته الدولة العبرية قبل العملية المفاجئة في لبنان. وعلى الرغم من أنّها سابقة على الصعيد العالمي. فقد سبق لإسرائيل أن نفّذت اغتيالات وضربات في إيران وسوريا واصطياد كوادر في لبنان. جديد ضربتَي 17 و18 أيلول اتّساع نطاق أضرارهما القاسية والدموية، والاختراق الأمنيّ الكبير للحزب ولإيران. فالأخيرة تردّد أنّها هي التي زوّدته بها حسب قول أوساط مطّلعة لـ”أساس” بدليل حيازة السفير الإيراني للبيجر. وقد أشارت وسائل إعلامية إيرانية إلى أنّ جهاز اللاسلكي “أيكوم” يستخدم على نطاق واسع في إيران.

الشحنة استبدلت قبل الاستلام..

مخاطبة نصر الله لجمهور المقاومة بـ”واقعية” تعود إلى ضخامة الذروة الجديدة من أضرار استخدام إسرائيل التكنولوجيا العالية ضدّ الحزب. وجاء ذلك مخالفاً لتعليقات محلّلي “الممانعة” أصحاب الخيال القصصيّ العالي بمواجهة الخيال العلمي الذي جسّدته الضربة. هذه التعليقات كان بعضها مضحكاً في الإسهاب، بقدر حجم الإنكار فيها. بينما أظهر نصر الله قدراً من المصارحة مع جمهوره المصدوم، في خطابه ليل الخميس مقارنة مع غلبة اللهجة الخطابية عادة. علاوة على الشعور بآثار الضربة المعنوية على الكوادر والمناصرين، فإنّ قيادة الحزب تدرك فداحة الخرق الأمنيّ الذي سمح بانسياب الأجهزة المفخّخة إلى صفوفه. وبعض المطّلعين على ما يجري تداوله في دوائر الحزب أسرّ لـ”أساس” بأنّ شحنة الأجهزة التي أرسلت إليه قبل أشهر، استُبدِلت في الطريق. هكذا حلّت مكانها البدائل المفخّخة من قبل “الموساد”.

الغموض في الرّدّ والاختصار وتضخيم هدف العدوّ

إضافة إلى قدر الواقعية الذي أظهره الأمين العامّ رصد مراقبون في خطابه نقاطاً منها:

1- كانت كلمته مكتوبة وقصيرة نظراً إلى ما سمّاه “دقّة وحساسية” الوضع في سياق حديثه عن الردّ. قيل إنّها كانت مسجّلة. ولم يخرج إلا نادراً عن النصّ، وهذا الجانب مدروس لأنّه لم يذهب كالعادة إلى قراءة المشهد الإقليمي والدولي إلا لماماً، تجنّباً لتحديد اتّجاهات تعود إلى القيادة الإيرانية في الأساس. وهي مرتبطة بالتوازنات الإيرانية الداخلية من جهة، وبما يمكن أن يحمله الرئيس مسعود بزشكيان من زيارته لنيويورك آخر الشهر لإلقاء كلمته في الأمم المتحدة.

– تقصّد ترك مسألة الردّ على الضربة الإسرائيلية غامضة لأنّها تحتاج إلى دراسة الإمكانات واحتمالات الردّ الإسرائيلي على الردّ. فالحزب ما زال على تفضيله تجنّب الحرب أو الانزلاق إلى الاستفزاز الإسرائيلي. وترك لقائد حرس الثورة الجنرال حسين سلامي أن “يشطح”. إذ إنّ الأخير قال في رسالة لنصر الله بعد الخطاب: “إسرائيل ستواجه ردّاً ساحقاً من محور المقاومة”. فالأخير باستطاعته التراجع أو الإقدام إذا تطلّب الأمر.

3- خفّف من ضخامة الخسائر بأن حدّد هدف إسرائيل قتل 5 آلاف حزبي ومدني، وأنّ “الله لطف”، بينما يستحيل على الأجهزة الصغيرة أن تقتل هذا العدد. سعى بذلك إلى التخفيف من وقع الأضرار الصادمة لرفع معنويات جمهوره والحؤول دون الإحباط.

الجهوزيّة والتّعافي استباقاً لغارات إسرائيل

4- مقابل إقراره بقساوة الضربة، وقوله إنّ الحرب يوم لنا من عدوّنا ويوم لعدوّنا منّا، كان من الطبيعي أن يؤكّد “جهوزية” المقاومة. ومع أنّه أشار إلى أنّ “البيجر” المفخّخ لم يكن في حوزة القيادات، لفت إلى أنّ أجهزة اللاسلكي التي انفجرت في اليوم التالي كانت أشدّ إيلاماً. فالنوع الأوّل يحمله غير المقاتلين من أمنيّين وتعبويّين وإداريّين. وبالتالي كان ضرورياً تأكيده الجهوزية حتى لا يستسهل الجيش الإسرائيلي مواصلة عملياته بالقصف الكثيف كما فعل بعد الخطاب. بعض الخبراء يشير إلى الآتي:

– من تضرّروا من المقاتلين في الجنوب من حاملي اللاسلكي ربّما كانوا قلّة. ومن هنا تأكيد نصر الله الاحتفاظ بقدرة القيادة والتحكّم.

– التعافي من تعطيل حركة القوى العسكرية سيكون سريعاً في حال النقص بأجهزة الاتّصال أو الإصابات.

– التعويض عن أجهزة اتّصال تفجّرت بدأ، وسيحصل في شكل سريع، سواء من إيران أو من غيرها مثل سوريا وربّما الفصائل العراقية.

هل هدف نتنياهو إعادة مهجّري الشّمال؟

5- التوسّع في التعاطي مع هدف نتنياهو إعادة مستوطني الشمال إلى بيوتهم، وتأكيد نصر الله أنّهم لن يعودوا قبل وقف الحرب على غزة. وفي هذه النقطة بالذات نقاش حول ما إذا كان نتنياهو جدّياً في إعادتهم أو يناور:

– وجهة نظر تقول إنّ نتنياهو يستخدم هذا المطلب نظراً إلى تحوّله لمعطى رئيس في الصراع الداخلي الإسرائيلي. يستغلّه من أجل صرف الأنظار عن ضغوط معارضيه والأهالي ليقبل صفقة تبادل الرهائن لدى حماس. بينما هو في الواقع لا يهتمّ لعودة المستوطنين إلى الشمال بقدر إهماله إعادة الرهائن.

– إعادة مستوطني الشمال متعذّرة حتى لو تمّت بعملية عسكرية نظراً إلى أنّ المستوطنات القريبة من الحدود أصابها دمار (ولو بنسبة أقلّ من القرى الحدودية اللبنانية) وتحتاج إلى خطة إعادة إعمار تتطلّب أشهراً إذا لم يكن سنوات. وبالتالي إعادتهم لم تعد ملحّة كما في الأشهر الماضية. عن ذلك ما زال القادة الإسرائيليون يردّدون بأنّ ضغطهم العسكري هدفه حمل الحزب على القبول بحلّ دبلوماسي لمشكلة الحدود.

الحزب يبرّر مواصلته الإسناد بمناورة نتنياهو؟

– يستخدم نتنياهو مطلب إعادة مستوطني الشمال لإطالة الحرب بانتظار الانتخابات الأميركية وما بعد هذه الانتخابات. يناور بجبهة الشمال للتغطية على ما يقوم به في الضفة الغربية من تهجير وتجريف. ويراوغ بهاتين الجبهتين لمواصلة سحق غزة والتأكّد من خفض قدرات حماس وفق الهدف الذي يتّفق فيه مع اليمين في ائتلافه الحكومي الذي يشكّل حبل النجاة لاستمراره في الحكم.

مقابل وجهة النظر الأخرى القائلة إنّ نتنياهو مصرّ على مواجهة في الجبهة الشمالية، وإنّ واشنطن لن تكون قادرة على منعه من توسيع الحرب، تستند القراءة التي تستبعد مغامرته في شنّ حرب على الحزب إلى أنّه يصعّد ضرباته للحزب مستفيداً من أنّ إيران لا تريد توسيعها. ويستنتج أصحاب هذه القراءة بأنّ إعلان نصر الله أنّ المستوطنين لن يعودوا. هو إيحاء بأنّ خوضه حرب إسناد غزة يحبط هدفاً إسرائيلياً. هو غطاء لأهداف أخرى في غزة والضفة ولخطة استنزاف الحزب في لبنان. إلا أنّ الحزب المصدوم يحتاج إلى ما يسوّغ له مواصلة الإسناد حتى لو كان عبر المناورة التي يقوم بها نتنياهو.

6- نسب نصر الله هذه المرّة ما دأب على تكراره عن قرب انهيار الكيان الإسرائيلي إلى القيادة الهوجاء لنتنياهو وبن غفير وسموتريتش. بينما كان في السابق ينسب توقّعه لهذا الانهيار إلى ضربات محور المقاومة وصموده في وجه العدوان الإسرائيلي.

وليد شقير- اساس

مقالات ذات صلة