تكريس “أيرنة” لبنان في “العهد العوني”: شهداء فداء “الوليّ الفقيه”؟
ما يعيشه لبنان اليوم هو استمرارٌ لـ “عهد عون” من دون عون، لكن بوجود الحاكم الحقيقي “حزب إيران”
شهداء “على طريق الأقصى” أم فداء “الوليّ الفقيه”؟
لا أعرف حقاً إذا كان كلام نواف الموسوي قديماً أو حديثاً، ولم أسعَ الى التحقق بعدما تأكدت صحته بالفيديو، لكنه كلام يشبه صاحبه الذي اعتاد أن يكون صريحاً وجلفاً وأن يصرّح بما يضمر وبما يفكّر فيه محازبوه من أكبرهم الى أصغرهم. ولا جديد في أن حزبه، “حزب إيران/ حزب الله”، لن يتردّد في قتل أي رئيس لبناني إذا لم يكن المرشّح الذي اختاره واختبره و”طبخه” وأفهمه أن أي انحراف عن “خط المقاومة” يكلّفه حياته. أحد العونيين أسرّ لي بهذا الاحتمال الخطر، في حديث خاص، بعدما ترك “التيار”، وكنا نتحدّث عن “الانقلاب” الذي حصل في شخصية ميشال عون وأفكاره.
كان محدّثي يعتبر أن “الجنرال” تغيّر خلال العامين اللذين سبقا انتخابه رئيساً، وأنه بعد انتخابه صار أسيراً لـ “الحزب” ولا يستطيع أن يخطو نحو استحقاقات مرتبطة بـ “السيادة” وتعزيز مكانة الدولة، أو حتى استحقاقات تدعم التعايش والوحدة الوطنية وتكافح الفساد، كما يُفترض في أي رئيس، خصوصاً إذا كان آتياً من صفوف الجيش. وحاول محدّثي أن يحصر “تغيّر الجنرال” عن “خطّه” بانحرافات صهره جبران باسيل ودوافعه الشخصية وسعيه الى وراثة الزعامة والرئاسة، وكأن الأخير كان يتصرّف باستغفال تامٍ لعمّه. لكن رأيي كان ولا يزال أن عون تغيّر خلال منفاه الفرنسي، وبالأخص قبيل إقدامه على التوقيع على “تفاهم مار مخايل” مع حسن نصر الله، ومعروفٌ أن باسيل هو من هندس هذا “التفاهم” مع جهابذة “الحزب”.
قبل التوقيع على “التفاهم” وبعده كان على عون أن يتعامى عن الآثار المسيئة للوفاق الوطني كما عبّر عنه “اتفاق الطائف” الذي تشارك و”الحزب” العداء له، متطلعاً فقط الى مأربه الشخصي، أي أن يكون رئيساً، كما تعامى صهره عن الآثار السلبية التي أدرك أنها ستنعكس على رئاسة الجنرال، فغدا عمّه وهو دميتين في أيدي “الحزب” وويلٌ لهما إذا فكرا في التمرّد عليه بدوافع “وطنية” (لا سمح الله) أو بدواعٍ تتعلق بالتوازنات اللبنانية، بل أكثر من ذلك إذا حاولا الذهاب بعيداً في ما كان متداولاً عن البحث في “استراتيجية دفاعية”، ولم يتأخّر عون الرئيس في الدفاع عن سلاح “الحزب” ومحاولة إضفاء “شرعية” الدولة عليه، ثم انتهى الأمر به وبصهره الى استعداء الجيش اللبناني من جهة، وإلى إفساد العلاقات مع الدول العربية تثبيتاً لوجود لبنان قسراً في “المحور الإيراني”.
ما يعيشه لبنان اليوم هو استمرارٌ لـ “عهد عون” من دون عون، لكن بوجود الحاكم الحقيقي، أي “حزب إيران” الذي مكّنته حربه لإسناد غزّة في الجنوب من وضع الداخل والخارج أمام واقع أنه غيّر كليّاً وجه النظام اللبناني عما كان عليه حتى حرب 2006. فالحكومة اليوم غير الحكومة آنذاك، اذ أن الأولى (برئاسة فؤاد السنيورة) كان لها هامش تحرّك تبرهن فيه أن ثمة “دولة” تفاوض باسم لبنان وتتمايز كليّاً عن إيران و”حزبها” ولم يكن فيها “طرف عوني” يسمّم شرعيتها، أما الحكومة الحالية (برئاسة نجيب ميقاتي) فمجبرة على النطق حرفياً بتوجّهات “الحزب” بالنسبة الى المواجهة مع إسرائيل في الجنوب، ولا رأي لها خارج التكيّف مع ما ينقله اليها رئيس البرلمان الناطق باسم “المرشد المحلي” بعد أن يكون الأخير استخار أو قدّر ما يرغب فيه “الولي الفقيه”. وفي الوقت نفسه يلعب “تيار باسيل”- لمصلحة “الحزب”- دور التشكيك بـ “ميثاقية” و”دستورية” حكومة تصريف الأعمال لئلا تجرّب القيام بدور حاكمي/ حكومي مشابه لدور حكومة 2006.
وللتذكير فقط، فقبل ذلك، في 2014، كان “الحزب” شجّع باسيل و”التيار” على دور مماثل لدوره الحالي لانتزاع الحق الدستوري من الحكومة الانتقالية آنذاك (برئاسة تمام سلام) بممارسة صلاحيات رئيس الجمهورية أثناء شغور منصب الرئاسة. ولا تُنسى طبعاً الأدوار التي تشارك فيها “الثنائي الشيعي” مع “التيار العوني” لتخريب فاعلية أي حكومة يرأسها سعد الحريري، لأنه يمثّل في نظرهما استدامة مؤكدة لمبادئ الوفاق التي أرساها “اتفاق الطائف”. وإذا كان “الحزب” قد لبّى المآرب الخاصة لـ “الحليف العوني” ومنحه جائزة “الرئاسة” التي طمح اليها، إلا أنه استخدمه داخلياً في زعزعة صيغة التعايش بين اللبنانيين، كما في تعميق أزمة الانهيار المالي لاستنساخ حال البؤس الاقتصادي التي عملت إيران عليها في سوريا والعراق واليمن باعتبارها الوسيلة الفضلى لفرض الاحتلال الإيراني وترسيخه في لبنان. واستخدمه كذلك في تشويه لبنان “ذي الوجه العربي”.
بنى “الحزب” على المكاسب التي حققها في “العهد العوني” لتكريس “أيرنة” لبنان ومن ثمّ فرض الحرب التي أطلقها في الجنوب، غير مكترث لإرادة اللبنانيين، ولما أحدثته وما يمكن أن تحدثه حربه من دمار في لبنان. الأخطر أنه لم يعد مهتمّاً حتى ببيئته وجمهوره اللذين أرهبهما وألزمهما بالصمت إزاء الخسائر البشرية والمادية الهائلة التي يتكبّدانها. إذ يعتبر “الحزب” هذه الخسائر “تضحيات على طريق الأقصى”، لكنها في الواقع تضحيات من أجل توسيع النفوذ الإيراني وتمكين وكيله اللبناني، أي “الحزب”، من الاستحواذ على لبنان، فهل سيكسب جمهوره فعلاً من استحواذ كهذا (؟!). ومن الواضح حتى الآن، وبالمعنى العسكري البحت، لم يربح الحرب ولم يخسرها، فحتى حليفه ميشال عون (في لقاء صحافي) لم يستبعد احتمال الخسارة وقال إنه “سيحزن” اذا حصلت وإنْ تمنى له “النصر”. أما ردّ “الحزب” على اغتيال قائده العسكري فؤاد شكر، وعدم ردّ إيران على اغتيال إسماعيل هنية، فكشفا أن قوّتهما تخضع لخطوط حمر دولية، بالأحرى “أميركية”، وأعادا تذكيرهما بأن “التفوق” الإسرائيلي ليس محصّناً بقوّة إسرائيل نفسها فحسب، بل خصوصاً بتوافق ثابت يشمل القوى الدولية الكبرى، بما فيها الصين وروسيا.
لكن محدودية قوّة الردع الإيرانية دولياً لا تنفي شرّها الإقليمي وقدرتها المثبتة على التخريب، وهذا ينطبق على “حزبها” اللبناني وسائر ميليشياتها. قد يظن البعض أنه لا ينطبق على “حماس” وفصائل غزّة، تحديداً لأنها تقاوم الاحتلال الإسرائيلي، غير أن الحقائق التي تتكشّف وستتكشّف لا تمنحها فضيلة الشك (“لو كانت تعلم”) وانما تُظهر أنها “كانت تعلم” ولا تمانع خياراً شمشونياً في القطاع، بل طمحت الى خراب شامل تبقى فيه وحدها ممثلة للشعب الفلسطيني. أما “حزب إيران/ حزب الله” فموقن بأن بقاءه مضمون، وأنه مهما تكن الضربات الإسرائيلية المرتقبة موجعة فإنها ستقوّيه ولن تكسره. لكن قوّته موجّهة ضد لبنان واللبنانيين، وما على هؤلاء سوى أن يخشوا خسارته بمقدار خشيتهم من “انتصاره”. وما “انتصاره” الذي صار الآن وهماً سوى تزكية لتهديد الموسوي بقتل أي رئيس لبناني لا يكون خاضعاً راضخاً لممارسات الاحتلال الإيراني.
عبد الوهاب بدرخان- لبنان الكبير