ما جرى أشبه بخيال علمي…العملية الأمنية الأكبر: تقطيع أواصر الاتصال داخل الحزب بين الكوادر والعناصر والقيادة
إنها العملية الأمنية الأكبر في تاريخ العمليات التي تستهدف لبنان أو غيره. لم يحدث أن حصلت تفجيرات على مساحة جغرافية شاسعة ما بين لبنان وسوريا بالتوقيت نفسه. ما جرى أشبه بخيال علمي. فيه خرق استخباري وأمني رفيع، إن على المستوى التقني، أو على مستوى بشري لا يزال غير معروف، من رحلة شراء حزب الله أجهزة الـpagers إلى وصولها إلى بيروت وتوزيعها على عناصره وكوادره. هي عملية طاولت جسم الحزب عمودياً وأفقياً. يبقى الأساس في توقيتها، بعد موجة من التهديدات المتزايدة والتصريحات حول الاستعداد لشنّ حرب على لبنان أو توسيع العمليات العسكرية.
ضرب الثقة
أسلوب جهنّمي اعتمدته إسرائيل، بتنفيذ عملية استهداف جماعية في لبنان، مع ما يعنيه ذلك من نيّة إجرامية أولاً، ولبث الرعب في نفوس اللبنانيين ثانياً، وفي البيئة الحاضنة للحزب خصوصاً. لا سيما أن علاقة الحزب مع بيئته تقوم على عناصر الثقة المتينة والشعور بالأمن الذي يوفره لهم. ومن خلال هذه العملية، أرادت إسرائيل ضرب تلك الثقة واهتزازها، بما يفوق ضربة الضاحية واغتيال فؤاد شكر. يفرض ذلك تحديات كبيرة على الحزب، أرادت إسرائيل فيها أن تقول إنها حققت انتصاراً في معركة من دون توسيع الحرب.
في شكل العملية ومضمونها، هدف أساسي أيضاً، وهو تقطيع أواصر الاتصال داخل الحزب بين الكوادر والعناصر والقيادة. وذلك ربما يكون استباقاً لعمل عسكري ما. لم يعد السؤال عن التصعيد أو الحرب أو توسيع العمليات، بل كل هذه أصبحت واقعة بغض النظر عن المسميات والتوصيفات.
قراءات لبنانية وإسرائيلية
قبل هذه العملية كان هناك، قراءتان مختلفتان للوقائع السياسية والعسكرية الإسرائيلية في لبنان وفي إسرائيل. للبنانيين قراءتهم والتي بقيت تستبعد الحرب وتشير إلى فرص الحلّ السياسي والديبلوماسي، على وقع تصاعد وتيرة الضربات الإسرائيلية، من دون تحولها إلى حرب شاملة أو عملية عسكرية واسعة. وللإسرائيليين قراءات مختلفة ومتعددة، بينها ما يشير إلى رفع مستوى الاستنفار تحضيراً للعملية الموسعة مع تكهنات في مواعيدها. وبينها ما يعتبر أن ما يجري هو نوع من استعراض القوة وزيادة التهديد للضغط السياسي والديبلوماسي. ولا يمكن إغفال قراءة إسرائيلية ثالثة لكل ما يجري، إذ تضعه في خانة “معركة المزايدات” الداخلية.
يقدّم لبنان أسبابه باستبعاد الحرب، وأهمها حجم الضغط الأميركي على إسرائيل، وعدم قدرة تل أبيب على تحصيل غطاء سياسي دولي للإقدام أكثر، علماً أن كل التنسيق مع الأميركيين يركز على توجيه ضربات مركزة ومحدودة لحزب الله ومواقعه، ومواصلة عمليات الاغتيال من دون شنّ عملية برية أو خوض حرب واسعة النطاق يمكنها أن تتحول إلى حرب إقليمية. كذلك يقرأ لبنان في الصراعات السياسية الإسرائيلية الداخلية، والتي لا تتيح لحكومة نتنياهو اتخاذ قرار بشن الحرب. كما يستند اللبنانيون على حاجة إسرائيل لتدريب القوات البحرية في الجيش على القتال البرّي، ما يعني وجود نقص حاد في المقاتلين. وأن إسرائيل إذا لم تتمكن من الانتهاء من حرب غزّة، فلن تكون قادرة على فتح جبهة جديدة.
حسابات سياسية وعسكرية
على الجانب الإسرائيلي كلام كثير عن التصعيد ومواعيده. قبل رأس السنة اليهودية الذي يحلّ في التاسع والعشرين من شهر أيلول، أم بعد زيارة نتنياهو إلى الأمم المتحدة وإلقائه كلمته هناك. قبل إقالة وزير الأمن يوآف غالانت أم بعدها. قبل الانتخابات الأميركية، أم بعد انتخاب الرئيس الجديد. لا تنفصل الحسابات السياسية الداخلية، وتفكير نتنياهو بمستقبله السياسي عن كل أدائه العسكري والسياسي، بما في ذلك سعيه لإقالة غالانت واستعادة جدعون ساعر إلى “كتلة الليكود”. حسابات داخلية كثيرة تتحكم بالمسارات الإسرائيلية قبل الحديث عن الحسابات العسكرية المتصلة بوضع الجبهة اللبنانية، والتي تقلبت تجاهها مواقف المسؤولين الإسرائيليين كثيراً. إذ هناك اتهامات عديدة توجه إلى نتنياهو بأنه هو الذي لم يكن يريد الحرب على لبنان على الرغم من مصادقة الجيش عليها سابقاً، وعلى الرغم من موافقة عدد من الوزراء الإسرائيليين. بعدها قلب نتنياهو المعادلة متهماً غالانت بإعاقة ومعارضة شنّ عملية عسكرية ضد حزب الله وحاول تحميله المسؤولية لإقالته. يشير ذلك بوضوح إلى حجم التخبط الإسرائيلي وعدم الوضوح في الرؤية.
أفق الحرب
في هذا الوقت، تكاثرت الضغوط الأميركية على الحكومة الإسرائيلية، من جهة لمنع التصعيد ضد لبنان، عبر المبعوث آموس هوكشتاين، والذي حذّر إسرائيل من مخاطر الإقدام على هذه الخطوة، وأنها لن تكون عنصراً مسهلاً لإعادة سكان المستوطنات الشمالية إلى منازلهم، وقدّم نصائح بإبرام تسوية لأنه ما بعد انتهاء العملية العسكرية ستكون هناك عودة إلى الاتفاق المقترح. ومن جهة أخرى لثني نتنياهو عن إقالة غالانت. إذ يتحدث الأميركيون عن إنقلاب من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي على إدارة بايدن، وهم يعتبرونها طعنة تتمثل بإقالته لأحد الأشخاص الموثوقين من قبلهم. في المقابل، هناك روايات أخرى بعضها يشير إلى التنسيق العسكري الأميركي الإسرائيلي والذي تمثّل بزيارتين لقائد الجيوش الأميركية، وقائد المنطقة الوسطى برفقة المسؤولين العسكريين الإسرائيليين إلى الحدود مع لبنان.
ما بين القراءتين المتضاربتين، لا وجود في إسرائيل لقرار بوقف الحرب. من يطالب بإبرام الصفقة في غزة ووقف القتال وإطلاق سراح الرهائن بناء على اتفاق، يطالب بالتصعيد العسكري مع لبنان، فيما يظهر حجم تردد الحكومة الإسرائيلية منذ أشهر إلى اليوم، من دون موقف نهائي وواضح حول ما ستُقدم عليه تل أبيب.
ما تجتمع عليه القراءات المتعددة والمتناقضة هو أن أفق الحرب مفتوح، والمواجهات العسكرية مستمرة لفترة طويلة، وبالتأكيد لما بعد الانتخابات الأميركية، مع توقع شبه أكيد بزيادة وتيرة العمليات العسكرية وتوسيعها من دون الحاجة إلى إعلان حالة الحرب أو الدخول فيها.
عملية تفجير الـpagers تندرج في خانة هذه العمليات، التي تستدرج حزب الله إلى الردّ وفي حال تمنّعه، فذلك سيغري الإسرائيليين لتنفيذ عمليات جديدة.
منير الربيع- المدن