إسرائيل تقسّم الجنوب الى ثلاثة: خسائر هائلة لم يعد بالإمكان إحصاؤها!

فرضت المدّة الزمنية الطويلة للحرب التي تقترب من تسجيل عامها الأوّل، تفاوتاً في مشاهد الدمار وحركة الناس والنشاط الاقتصادي. وترافق التفاوت مع التقسيم الجغرافي الذي فرضته نيران العدوّ الإسرائيلي، حتى بات من السهل رسم خريطة للمنطقة الواقعة بين جنوب نهر الليطاني شمالاً وبين الحدود مع فلسطين جنوباً، وضمنها المناطق الواقعة بين الساحل غرباً وصعوداً نحو قرى العرقوب شرقاً.

تقسيم ثلاثي بالنار
خلال شهر تشرين الأول 2023، بدا قرار العدوّ واضحاً في تقسيم منطقة الجنوب اللبناني إلى ثلاثة أقسام، الأوّل يشمل المناطق المحاذية مباشرة للحدود مع فلسطين المحتلة، ومن ضمنها قرى علما الشعب، مروحين، عيتا الشعب، يارون، بليدا، عيترون، ميس الجبل، حولا، كفركلا وغيرها.

القرى الواقعة في القسم الأوّل شهدت دماراً هائلاً لمنازلها ومؤسساتها التجارية. وخلال شهر تشرين الأوّل بدأ يتضاءل فيها عدد السكّان وصولاً لشبه الانعدام، ما خلا أعداداً لا تتجاوز أصابع اليدين، بالإضافة إلى توقُّف النشاط الاقتصادي، الزراعي والتجاري والخدماتي.

القسم الثاني يشمل القرى الأبعد عن الحدود باتجاه الداخل، مثل المنصوري، مجدل زون، ياطر، تبنين، حاريص، شقرا، مجدل سلم، وغيرها. ويقتصر تعامل العدوّ مع هذه القرى على استهداف بعض المنازل وتحرّكات مَن يشتبه بأنهم من عناصر حزب الله. وفي هذه القرى، لا يزال الأهالي في منازلهم، والحركة الاقتصادية شبه عادية، لكن مستوى الحَذَر مرتفع جداً، إذ يمكن في أي لحظة استهداف سيارة أو دراجة نارية أو منزل.

في القسم الثالث، يمكن ملاحظة حركة طبيعية جداً. إذ يضمّ هذا القسم قرى قضاء صور ومنها قانا، عين بعال، جويّا، معركة، العباسية، شحور وطيرفلساي الواقعتان على الضفة الجنوبية لنهر الليطاني. وفي هذا القسم، لا تزال المحال التجارية والمطاعم على حالها، فضلاً عن ملاحظة استئناف عمليات البناء التي كانت توقّفت مع بداية الحرب. ونظراً لاعتبارها مناطقَ آمنة بنسبة كبيرة، لجأ الكثير من أبناء القرى الحدودية إلى قرى القسم الثالث.

ظروف الحياة متفاوتة
انعدام الأمن في المناطق الحدودية، جعلَ ظروف الحياة في قرى الشريط “معدومة بنسبة تصل إلى 99 بالمئة”، وفق ما يقوله رئيس بلدية “عيترون” سليم مراد، الذي يوضح في حديث لـ”المدن”، أن بعض أبناء القرية قرّروا البقاء فيها “ويمارسون الحد الأدنى من النشاط الزراعي للبقاء على قيد الحياة، وبعضهم بقي للاهتمام بالمواشي، وهؤلاء يُعَدّون على الأصابع”. ويعطي مراد صورة عامة عن القرى المحيطة بعيترون والتي تتشابه فيها ظروف الحياة بفعل التدمير وخروج أغلب الأهالي نحو مناطق آمنة. فيلفت النظر إلى أنه “كلّما ابتعدنا باتجاه الداخل، تنشط الحركة، فعلى بُعد بين 3 إلى 5 كيلومتر من عيترون تبدأ الحركة بالتحسّن وصولاً إلى نسبة 25 بالمئة”.

بالتوازي، تصبح الأمور أفضل حالاً كلّما ابتعدنا عن الحدود، إلاّ أن الحياة اليومية للسكان لا تصبح آمنة بشكل تام. فعلى سبيل المثال، تعيش بلدة “ياطر” التي تبعد عن صور نحو 22 كيلومتراً “في حالة حذر وتوتّر”، وفق توصيف رئيس بلديّتها خليل كوراني الذي يوضح في حديث لـ”المدن” أن البلدة لا تشهد عمليات قصف وتدمير كالتي تشهدها القرى الأمامية، لكن مع ذلك “تم تدمير نحو 40 منزلاً حتى الآن”. ويشرح أنه “في بداية الحرب، خرجَ نحو نصف السكّان من القرية خوفاً من الحرب، لكن بعد نحو 3 أشهر، أدركوا أن المسألة ستطول، ولا يمكنهم البقاء خارج بيوتهم مدة طويلة، لاسيّما وأن البلدة لم تتعرّض للقصف بشكل كبير، فعادوا إليها”.

جغرافية البلدة المرتفعة والمواجِهة لفلسطين، جعلت أطرافها تتعرّض للقصف مراراً، خصوصاً لجهة بلدتيّ زبقين وبيت ليف. ومع ذلك “لا تزال الحركة الاقتصادية فيها نشطة، فالمحال التجارية والملاحم والمطاعم وصالونات الحلاقة، تعمل بشكل طبيعي”.

الابتعاد أكثر عن الحدود يعطي مزيداً من الأمان. والوصول إلى قرية “معركة” التي تبعد عن مدينة صور نحو 12 كيلومتر، يوضِح أن الحركة لا تشي بوجود حرب، ما خلا ملاحظة كثرة النازحين الآتين “من عيتا الشعب، عيترون، بيت ليف، وبنت جبيل وغيرها”، وفق رئيس البلدية عادل سعد الذي يشير إلى أن “تأثُّر القرية بالحرب لا يتعدّى الـ15 بالمئة”.
احتضنت القرية “نحو 220 عائلة نازحة”. واستطاع بعض أفرادها “إيجاد عمل في المؤسسات الموجودة في القرية، وهناك تجربة لسيّدة افتتحت محلاًّ خاصاً بها لخبز المرقوق (الصاج)، لكن يبقى موضوع العمل مسألة فردية وليست عامة، إذ لم يستطع الجزء الأكبر من النازحين إيجاد عمل”. وعلى المستوى الاقتصادي، لا يزال الوضع على ما هو عليه قبل الحرب “فالمؤسسات التجارية تعمل بشكل طبيعي، وخلال الحرب تمّ افتتاح بعض المطاعم والمحال الجديدة”.
والجدير ذكره أن الحركة الطبيعية التي تشهدها منطقة صور، حوَّلها ملجأً لأبناء قرى الشريط الحدودي. وهذا الهدوء، انسحب أيضاً نحو منطقة النبطية وإقليم التفاح والبقاع الغربي، ولا يخرقه سوى اعتداءات إسرائيلية تنحصر باستهداف سيارات أو دراجات نارية أو منازل محدّدة بهدف اغتيال عناصر من حزب الله.

تهريب في العرقوب
تتداخل المشاهد في قرى العرقوب بين قصفٍ ونيران وهدوء حذر واستمرار التهريب نحو سوريا. يصنِّف أهالي كفرحمام وكفرشوبا قريتيهما بأنهما “خط المواجهة”، فأطراف البلدتين تتعرّض لإطلاق نار تجعل الحياة اليومية للأهالي “حذرة جداً”.
يقول بعض الأهالي في حديث لـ”المدن” أن عدد الناس في البلدتين “بات قليلاً… لكن هناك حركة نشطة ممَّن يعودون لاسيّما يوميّ السبت والأحد لتفقُّد المنازل والكروم، خصوصاً التين والزيتون”. ويتفاوت وجود الأهالي بين كفرحمام وكفرشوبا لصالح الأخيرة التي لا يزال عدد ساكنيها أكبر.

نزولاً نحو الهبارية، يصبح الوضع أكثر أماناً. ويزداد الأمان مع التوجّه نحو إبل السقي وحاصبيا “إذ تصبح الحياة طبيعية بامتياز”، وكذلك الأمر في قرية كفرديس.

اللافت للنظر في تلك المنطقة هو “تهريب البضائع من شبعا باتجاه سوريا. وشبعا لا تزال الحركة فيها طبيعية وسكّانها لا يزالون فيها، أما القصف فيطال أطرافها فقط”. ويشير بعض أهالي المنطقة إلى أن “التهريب يحصل بواسطة البغال، ويتم إخراج برادات وغسالات وحديد للبناء ومازوت من لبنان نحو سوريا، وهي حركة تهريب ليست مستجدة، بل تاريخية، وسابقة لوجود الاحتلال الإسرائيلي.

وإذا كانت الحركة الاقتصادية في قرى العرقوب تتفاوت بحسب مستوى القصف الذي يطال القرى أو أطرافها. فإن الأنظار اليوم “تتّجه نحو إنقاذ موسم الزيتون بعد خسارة موسم التين”.

غياب الحماية الفعلية
في المناطق الحدودية خسائر هائلة لم يعد بالإمكان إحصاؤها حالياً نظراً لصعوبة الوصول إليها وإجراء المسح، ومع ذلك، تمكَّنَ مجلس الجنوب من توثيق الكثير من الأضرار من بينها هدم نحو 1700 منزل وتضرُّر ما يزيد عن 14 ألف منزل، بالإضافة إلى تضرّر نحو 10 آلاف دونم من الأراضي، فضلاً عن المؤسسات التجارية والسيارات والبنى التحتية، وفق ما بيَّنَه رئيس المجلس هاشم حيدر، الذي أوضح غير مرّة أن الحجم الحقيقي للأضرار وقيمتها سيتّضح بعد الحرب ووقف الأعمال العسكرية، إلاّ أن القيمة التقديرية للأضرار المباشرة باتت تفوق المليار دولار، ويضاف إليها لاحقاً الأضرار غير المباشرة.
وسط هذا الخطر الأمني، تغيب مظلة الحماية الاقتصادية والاجتماعية لسكّان ونازحي القرى التي تتعرّض للاعتداءات، فمَن خَرَجَ مسرعاً، تركَ كلّ شيء خلفه على أمل العودة سريعاً. وفي الوقت عينه، اتّخذَ أغلب أصحاب المواشي قراراً ببيعها والخروج من المنطقة، وبالتالي تحمُّل خسارة كبيرة يصعب تعويضها. وانتهى الأمر بالنازحين إلى التطبيع مع الأزمة لعدم قدرتهم على تغيير الواقع في ظل غياب الدور الفعلي للدولة في تأمين مستلزمات الصمود أو النزوح ولاحقاً التعويض على المتضرّرين بالقيمة الفعلية لحجم الأضرار.

خضر حسان- المدن

مقالات ذات صلة