“نقطة قتال” إلى “جبهة”: ماذا يريد نتنياهو من الضّفّة الغربيّة؟

هل “ستقف الاوضاع عند حدّ “المداهمات الأمنيّة” أو “الضربات الاستباقيّة”

يواصل جيش الاحتلال الإسرائيليّ عمليّته العسكريّة التي أعلَنَها قبل أسبوعيْن في مناطق شمال الضّفّة الغربيّة تحت مُسمّى “المُخيّمات الصّيفيّة”. وتأتي بالتّوازي مع العمليّة العسكريّة الاعتداءات التي يشنُّها المستوطنون على المدنيين الفلسطينيين. في المُقابل تتصاعد عمليّات الفصائل الفلسطينيّة هُناك مع تهديدها بنقل المعركة إلى العمقِ الإسرائيليّ. ماذا يحصلُ في الضّفّة الغربيّة؟ وماذا وراء العمليّة العسكريّة الإسرائيليّة؟

لم تبدأ العمليّة الإسرائيليّة في الضّفّة الغربيّة في الأيّام الماضية بعد إعلان الجيش انطلاق عمليّة “المخيّمات الصّيفيّة”. إذ بدأت فعليّاً بعمليّات أمنيّة وعسكريّة وحملات اعتقالات واسعة انطلقَت مباشرة بعد عمليّة “طوفان الأقصى” يومَ السّابع من أكتوبر (تشرين الأوّل) 2023، وحملة اغتيالات ترتبطُ بالوضع في الضّفّة، أكان داخل بلداتها ومخيّماتها أو في لبنان كما حصلَ مع اغتيال نائب رئيس حركة “حماس” ومسؤول “ملفّ الضّفّة” في الحركة صالح العاروري في الضّاحية الجنوبيّة لبيروت مطلع العام الجاري، أو اغتيال العميد في حركة فتح خليل المقدح في مدينة صيدا بالتزامن مع إعلان توسيع العمليّات العسكريّة في الضّفّة الغربيّة.

قبلَ يوم السّابع من أكتوبر، كانت الضّفّة الغربيّة مصدر قلق حقيقي لإسرائيل، قبل الجبهة مع قطاع غزّة أو لبنان. وكان هذا واضحاً في تصريحات بنيامين نتنياهو في نهاية شهرِ آب 2023 التي هدّدَ فيها صالح العاروري، وقال إنّ الأخيرَ يقف وراءَ الهجمات التي نفّذتها حماس في الضّفّة الغربيّة طوال أشهر سنة 2023.

لا خلاف أنّ حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزّة خطَفَت الأضواء منذ ذلكَ الحين، لكن بلَغَ عدد الشّهداء الفلسطينيين في مناطق الضّفّة الغربيّة أكثر من 400 وعدد الأسرى زاد على 6,000. وتُعتبَر هذه الحصيلة هي الكبرى في مدن ومُخيّمات الضّفّة منذ أن شنّ رئيس الوزراء الإسرائيليّ الأسبق آرييل شارون عمليّة “السّور الواقي” بعد اندلاع الانتفاضة الثّانية عام 2000 وانتهَت رسميّاً في 2004.

“نقطة قتال” إلى “جبهة”

منذ بدء الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة، كان جيش الاحتلال يُصنّف الضّفّة الغربيّة “نقطة قتال” وليس “جبهة حربيّة” بالمفهوم السّائد. لكنّ ما حصلَ قبل 3 أسابيع من محاولة لتنفيذ عمليّة تفجيريّة في تل أبيب كانَ نقطة تحوّلٍ في الرّؤية العسكريّة والأمنيّة الإسرائيليّة تجاه الضّفّة الغربيّة.

كما أعقبَ هذه المُحاولة بيانٌ مُشتركٌ صادِرٌ عن الجناح العسكريّ لحركة “حماس” كتائب عزّ الدّين القسّام، والجناح العسكريّ لحركة “الجِهاد الإسلاميّ” سرايا القُدس يُعلِن عودة العمليّات التفجيريّة في العمق الإسرائيليّ بعد تعليقٍ لهذه العمليّات منذ الانتفاضة الثّانية.

كذلك عمِدَ الجيش الإسرائيليّ إلى نقل بعض الفِرق من الحدود الشّماليّة مع لبنان نحوَ الضّفة الغربيّة. وهذا يؤكّد قلق المؤسّستيْن العسكريّة والأمنيّة من احتمالية انفجار الوضع في الضّفّة الغربيّة أكثر من القتال الدّائر مع الحزبِ على حدود لبنان.

أولويّة الضّفّة الغربيّة لدى حكومة الاحتلال مردّها إلى أسباب عديدة أبرزها:

1- تضمّ مناطق الضّفّة الغربيّة أكثر من 450 ألف مستوطن موزّعين حولَ مُدن الضفّة الغربيّة. يُقابلهم ما يقارب 3 ملايين فلسطينيّ. تخشى إسرائيل أن يكون هؤلاء المستوطنون أهدافاً إذا ما قرّرت “حماس” أو “الجهاد” اقتحام بعض المستوطنات المُتداخلة مع مدن الضفّة الغربيّة، خصوصاً أنّ مستوطنات الضّفّة تُعتبرُ معقلاً أساسيّاً للأحزاب الإسرائيليّة اليمينيّة التي تُمسكُ بزمام القرار السّياسيّ في تل أبيب.

2- يعتبرُ نتنياهو مستوطني الضفّة الغربيّة شركاء في الائتلاف الحكوميّ سياسيّاً وأيديولوجيّاً. ولهذا كانَ يستعملُ في خطاباته خلال الأعوام الـ3 الأخيرة المُسمّى التوراتيّ للضفّة الغربيّة، أي “يهودا والسّامرة”. يُضاف إلى ذلك ضمّه للضّفة الغربيّة إلى خريطة الكيان العبريّ أثناء مؤتمره الصّحافيّ الأسبوع الماضي للحديث عن قضيّة “محور فيلادلفي” بين قطاع غزّة ومصر.

3- تُحاول حكومة الاحتلال توظيف العمليات العسكريّة في الضّفّة الغربيّة من أجل توسيع الاستيطان وضمّها للسّيادة الإسرائيليّة. وهذا من الأهداف المُعلنة للعديد من الأحزاب اليمينيّة المُشاركة في الحكومة مثل “عظمة يهوديّة” بقيادة وزير الأمن الداخلي إيتامار بن غفير و”الحركة الصّهيونيّة الدّينيّة” بقيادة وزير الماليّة بتسلئيل سموتريتش.

يؤكّد هذا أيضاً ما قاله وزير الخارجيّة يسرائيل كاتس حين دعا إلى إجبار السّكان الفلسطينيين على النّزوح من بعض المناطق في الضّفّة. وهذا ما دفَع وزير الخارجيّة الأردنيّ أيمن الصّفدي للتحذير من أنّ أيّ تهجيرٍ لسكّان الضفة نحوَ الأردن سيُعتبر إعلان حربٍ.

4- نجاح حركتَيْ “حماس” و”الجهاد” في عمليّة تل أبيب في تخطّي الحواجز والعوائق الأمنيّة. إذ عبرَ المُنفّذ الشّاب جعفر منى بالسّيارة المُفخّخة وحقيبته التي تحتوي على مُتفجّرات من مدينة نابلس شمال الضّفّة الغربيّة إلى مدينة تل أبيب، أي أنّه اجتازَ أكثر من 70 كلم للوصول إلى هدفه.

5- استطاعت حركتا حماس والجهاد الإعداد لبنية عسكريّة متينة في مخيّمات الضّفّة الغربيّة طوال السّنوات الماضية.

المفعول العكسيّ

منذ ما قبل الإعلان بشكلٍ رسميّ عن عمليّة “المُخيّمات الصّيفيّة”، مارست سلطات الاحتلال منذ تشرين الأوّل الماضي عدّة خطواتٍ أمنيّة وعسكريّة وأصدرت قراراتٍ إداريّة تؤكّد ما تحوكه الحكومة الإسرائيليّة لمناطق الضّفّة الغربيّة.

1- كثّفَ جيش الاحتلال الاغتيالات المُركّزة بطائرات مُسيّرة مُسلّحة وانتحاريّة، أو عبر المروحيّات الهجوميّة. وتركّزت هذه الاغتيالات في مُخيّميْ جنين وطولكرم، وأسفرت عن استشهاد 380 فلسطينيّاً منذ السّابع من تشرين الأوّل الماضي.

2- مارسَت قوات الاحتلال سياسة “الإصبع الرّخو على الزّناد”، وصار جنودها يُطلقون النّار على أيّ فلسطينيّ لمجرّد الاشتباه به، وإن لم يُشكّل أيّ مصدر خطرٍ عليهم.

3- عمِدَ الجيش الإسرائيليّ إلى تدمير الرّموز الفلسطينيّة في المناطق التي اقتحمها، مثل “أقواس العودة” على مدخل مخيّم جنين. وجرفَ في وقتٍ لاحقٍ “ميدان العودة” و”ميدان الدّاخليّة” في مدينة جنين، ومعهما النّصب التّذكاري للصحافيّة شيرين أبو عاقلة التي اغتالها جيش الاحتلال في مخيّم جنين في أيّار 2022.

4- التدمير المُمنهج للبنى التحتيّة في كلّ المناطق التي تدخلها قوات الجيش الإسرائيليّ، من طُرِقٍ رئيسيّة وفرعيّة للمخيّمات والمُدن على حدٍّ سواء. والهدف من ذلك تقطيع أوصال الضّفة الغربيّة.

5- منع عددٍ كبير من الفلسطينيين من العمل في المدن والمستوطنات الإسرائيليّة، وهو ما ينعكسُ سلباً على معيشة المواطنين والواقع الاقتصاديّ في الضفّة. إذ يبلغ عدد الفلسطينيين الذين يعملون في الدّاخل الإسرائيليّ 110 آلاف عامل.

6- مُصادرة وزارة الماليّة الإسرائيليّة أموال الضّرائب الفلسطينيّة، وهو ما تسبّب بحرمان جزءٍ مهمّ من الموظّفين من رواتبهم. واستدعى ذلك تدخّلات أميركيّة بالضّغط على نتنياهو ووزير المالية سموتريتش للإفراج عن هذه الأموال.

قد تؤدّي هذه السّياسات الإسرائيليّة إلى تفاقم الأوضاع نحوَ انتفاضة ثالثة في الضّفة الغربيّة، وهذا ما كان قد حذّر منه وزير الدّفاع الإسرائيليّ يوآف غالانت بناءً على تقديراتٍ للجيش والشّاباك (الأمن الدّاخليّ) بشأن تفاقم الأوضاع في الضّفة إذا ما استمرّت حكومة نتنياهو بمنع العاملين الفلسطينيين من مزاولة أعمالهم في الدّاخل الإسرائيليّ ومصادرة أموال السّلطة الفلسطينيّة.

عزل الخليل

تُركّزُ العمليّة العسكريّة الإسرائيليّة حاليّاً على مخيّمات شمال الضفّة الغربيّة. وحتّى السّاعة تُبعدُ نيرانها عن أيّ تحرّكٍ تجاه مدينة الخليل الواقعة جنوب الضّفّة. لكنّ هذا لا يعني أنّ الخليل لا تُقلقُ الإسرائيليين. على العكس ينبعُ تحييد الخليل من خشية انتقال التّوتّر في الضّفّة إليها.

المدينة الفلسطينيّة تُجاور وتتداخل مع عدّة مستوطنات إسرائيليّة رئيسيّة، وتضمّ أكبر تجمّع للمستوطنات في الضّفة الغربيّة، مثل مستوطنة “كريات أربع” التي يقطنُ فيها وزير الأمن الدّاخليّ إيتامار بن غفير.

محاولة إسرائيل إبقاء الخليل خارجَ حدود التّوتّر لعدّة أسباب:

1- الكلفة العسكريّة والبشريّة الباهظة التي قد تتكبّدها إسرائيل في حال وصلَ فتيل التّوتّر في الضّفة الغربيّة إلى مدينة الخليل، بسبب تداخلها مع المستوطنات.

2- ارتفاع منسوب التّوتر مع الخليل قد يدفع القيادة العسكريّة لتخفيف وجودها العسكريّ في قطاع غزّة وعلى الحدود مع لبنان لتعزيز أيّ عمل عسكريّ هُناك. وهذا ما يزيد من المسؤوليّات على كلّ الأجهزة الإسرائيليّة، وهذا ما لا ترغب به حكومة نتنياهو حاليّاً.

3- لا يمتلك الجيش الإسرائيليّ مساحةً جدّية للعمل في المدينة، وذلكَ بسبب وجود المستوطنين فيها.

4- تحرصُ الحكومة الإسرائيليّة على إيلاء أهميّة لما حقّقته على مرّ السّنين في تغيير الأوضاع في المدينة. إذ نجحت خلال الأشهر الماضية من تقسيم “الحرم الإبراهيميّ” زمانيّاً ومكانيّاً بين اليهود والفلسطينيين المُسلمين.

لكنّ هذه الأسباب لا تعني أنّ مدينة الخليل ستكون خارج “أجندة” اليمين الإسرائيليّ، بل تعني أنّ المدينة ستكون الهدف الآتي إذا ما نجحت سلطات الاحتلال في التخلّص ممّا تعتبره مصادر تهديد في شمال الضّفّة مثل جنين وطولكرم ونابلس ونور شمس.

الخليل هي أحد أبرز معاقل حركة “حماس” في الضّفة الغربيّة، وقد حقّقت الحركة فيها نجاحاً استثنائيّاً في انتخابات عام 2006، حين فازت بجميع المقاعد الفرديّة وأكثر القوائم في المدينة.

باتَ واضحاً أنّ الحكومة المُتطرّفة في تل أبيب ماضية في مخطّطاتها لتعزيز الاستيطان على حساب التضييق على الفلسطينيين في الضّفة الغربيّة، ولو بالتدريج. فمن العبث الاعتقاد أنّ حكومة يرأسها ويشاركُ فيها كلّ من يرفض قيام دولة فلسطينيّة أو حتّى حقّ الفلسطينيين في الحياة ستقف عند حدّ “المداهمات الأمنيّة” أو “الضربات الاستباقيّة”.

ابراهيم ريحان- اساس

مقالات ذات صلة