نتنياهو يطلق هواجس اجتياح جديد للجنوب: التلويح الإسرائيلي لم يَعد مجرّد فقاعة هوائية”!
أخطأنا بعد انسحابنا من لبنان في العام 2000
لا يمكن التعاطي باستخفاف مع التهديدات الإسرائيلية الأخيرة بالدخول البري إلى الجنوب. وموقف بنيامين نتنياهو رفع مستوى التهديد، إذ قال: أخطأنا بعد انسحابنا من لبنان في العام 2000. إذ، بمجرّد تعرّضنا إلى أول قذيفة من الجانب اللبناني، كان علينا أن نعود إلى احتلال المناطق التي أخليناها.
في بعض الأوساط الديبلوماسية، ثمة من يعتقد أنّ التلويح الإسرائيلي باجتياح الجنوب، ربما حتى الليطاني، لم يَعد مجرّد فقاعة هوائية، بعد عملية “طوفان الأقصى”. وهذا الاحتمال يتحسب له الجميع، بمن فيهم “حزب الله” على الرغم من اقتناعه بأنّ الإسرائيليِّين سيفكّرون كثيراً قبل اللجوء إلى هذه المغامرة، لأنّهم سيصطدمون بمواجهة شرسة وطويلة الأمد، وتكبّدهم خسائر فادحة. فإذا كان هؤلاء يتعثرون منذ 11 شهراً في إحكام السيطرة على غزة، واستهلكوا فيها الكثير من طاقاتهم العسكرية والاقتصادية، معنى ذلك أنّ أي محاولة منهم لدخول الجنوب ستكون أشبه بدخول الجحيم.
على مدى ربع قرن مضى، تبنى معظم الخبراء الإسرائيليِّين نظرية تقول إنّ صيانة أمن الحدود الشمالية، باتفاقات سياسية مغطاة دولياً، وبوجود قوات “اليونيفيل” المدعّمة، تبقى أضمن لإسرائيل وأقل كلفة عليها من مغامرة احتلال الجنوب. وهذا تماماً ما تمكّن الإسرائيليّون من تأمينه عبر القرار 1701، على مدى 17 عاماً.
لكنّ ما فعلته “حماس” في 7 تشرين الأول 2023، وإشعال “حزب الله” حرب الاستنزاف في الجنوب دعماً لـ “حماس”، دفعا الإسرائيليِّين إلى إعادة النظر في المسلمات السابقة. واليوم، يُظهر الإعلام الإسرائيلي أنّ هاجس تكرار عملية “الطوفان” واردة في جنوب لبنان أيضاً، وفي أي لحظة في المستقبل، ولو تم إحياء الـ 1701 والعودة إلى “الستاتيكو” الذي كان سائداً قبل انفجار الحرب الحالية.
خلافاً لما يعتقد البعض، الجو الإسرائيلي الداخلي يشجّع نتنياهو على المغامرات العسكرية على مختلف الجبهات، لأنّه أقنع قسماً كبيراً من الرأي العام بضرورة اتخاذ إجراءات جذرية لضمان أمن المستوطنين. فالضغوط التي يتعرّض لها الرجل من أجل دفعه إلى إبرام اتفاق تبادل للرهائن في غزة، لا تنطلق من رغبة الرأي العام الإسرائيلي في إنهاء الحرب هناك، بل من حاجة ذوي الرهائن إلى إطلاق أبنائهم من أيدي “حماس”، وبعد ذلك فلتستمر الحرب حتى تدمير القطاع وتهجيره. أمّا على الجبهة مع لبنان، فسكان المناطق الشمالية يشجّعون نتنياهو على التصعيد بقوة وحسم الوضع، ما يشكّل ضماناً نهائياً للسكان في عمق عشرات الكيلومترات داخل إسرائيل. لذلك، من الخطأ اليوم القول إنّ غالبية الرأي العام الإسرائيلي تعتبر نتنياهو رجلاً كريهاً لأنّه مولع بالحرب.
سكان الشمال لا ينسون لحظة انقضاض مقاتلي “حماس” غفلة على المستوطنين في غلاف غزة وعلى مواقع الجيش الإسرائيلي، مخلّفين 1400 قتيل (إذا كان العدد صحيحاً) و250 رهينة. لهذا نقل عاموس هوكشتاين إلى بيروت تحذيراً واضحاً مفاده أنّ الأمن الدائم للسكان في المناطق الشمالية يجب أن يتحقق بالديبلوماسية… وإلّا فإنّ الوسائل العسكرية، أي الحرب، تصبح خياراً اضطرارياً.
في بداية الصيف الجاري، أعلن المسؤولون الإسرائيليّون عزمهم على إعادة سكان المناطق الشمالية إلى منازلهم قبل بدء الموسم الدراسي في مطلع أيلول، أياً كانت الظروف. لكن هذا لم يتحقّق، وجرى تمديد إقامة النازحين وتسجيل الطلاب عاماً آخر في المناطق التي نزحوا إليها. وهذا يعني أنّ الحكومة اختارت إبقاء الأهالي مدة كافية في مناطق آمنة ليكون لها هامش التصرّف عسكرياً في منطقة الحدود. فهي لن تعيدهم إلى منازلهم إلّا بعد ضمان أمنهم، وإزالة الخطر الذي يشكّله “الحزب”. وهذا ما يترك المجال مفتوحاً لتوسيع هامش الضربات في لبنان، أو إشعال حرب برية، خصوصاً في فترة الإرباك الانتخابي في الولايات المتحدة.
وما يرفع مستوى المخاوف هو اقتناع نتنياهو وفريقه بأنّ الفرصة المتاحة اليوم لحسم الخيارات، في غزة والضفة ولبنان، في ظل دعم دولي وسكوت عربي، لن تتكرّر ولا يجوز تفويتها. وقد يتمادى ليطلق سيناريو حرب برية في لبنان على غرار السيناريو الذي تشهده غزة. ومن الواضح أنّ نتنياهو يدرس خيارات الربح والخسارة بدقة. ففي غزة، هو مستعد للتخلّي عن 120 رهينة، إذا كان ذلك ثمناً لمكاسب استراتيجية ضخمة، أي لتصفية القضية الفلسطينية. وفي لبنان كذلك، قد يوافق نتنياهو على تكبّد مقدار معيّن من الخسائر في أي حرب، إذا كانت ستوفّر الأمان الدائم على الحدود، وتقطع الطريق على أي خسائر في المستقبل. لذلك، ويوماً بعد يوم، يصبح توغّل إسرائيل كيلومترات عدة داخل الأراضي اللبنانية، وربما حتى الليطاني، خياراً جدياً. وقد سبق لها أن نفّذت اجتياحات برية في لبنان في ظروف دولية مختلفة. وعلى لبنان أن يتحسّب لهذا الاحتمال بكثير من الاهتمام، لئلّا يفوت الأوان كما فات في غزة والضفة الغربية.
طوني عيسى- الجمهورية