اسرائيل… من غزة الى الضفة الى لبنان: محور الممانعة ليس في أفضل أحواله!

لم تشعر اسرائيل منذ أحد عشر شهراً بهذا الارتياح الذي تشعر به بعد الرد الباهت الذي تلقته من “حزب الله”، وبعد المظلة الأمنية الهائلة التي وفرتها الولايات المتحدة في البحرين المتوسط والأحمر، وبعد استعادة قوة الردع على مستوى المنطقة كلها، اضافة الى اقترابها من تطويع حركة “حماس” في غزة على مستوى الأرض والسلاح والقادة.

ولعل هذا الارتياح هو الذي سمح للجيش الاسرائيلي بفتح جبهة الضفة الغربية، من دون أي قلق أو توجس من ضغوط أي جبهة أخرى سواء من القطاع أو من جنوب لبنان، في خطوة تهدف الى تطهير المناطق الفلسطينية الحدودية من أي قوى أصولية فلسطينية يمكن أن تكرر في المستقبل ما فعلته “حماس” في “السابع من أكتوبر”.

وأكثر من ذلك، لعل هذا الارتياح أيضاً هو الذي دفع رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو الى التمسك بمعبري فيلادلفيا ورفح متحدياً بذلك الحكومة المصرية التي ترفض اتهامات اسرائيلية بأن هذين المعبرين كانا الرافد الأساسي للسلاح الذي كانت تتلقاه حركتا “حماس” و”الجهاد الاسلامي” قبل “طوفان الأقصى”.

وليس من قبيل المصادفة، أن تنقل مصر أجواء التوتر المباشر مع اسرائيل في ملف غزة الى مكان آخر، هو الصومال التي تلقت أول دفعة من المساعدات العسكرية المصرية في عز التوتر القائم بين مقديشو واثيوبيا التي تتلقى معظم أسلحتها من الترسانات الاسرائيلية.

وليس من قبيل المصادفة أيضاً، أن تلتزم السلطة الفلسطينية الصمت حيال ما يجري في الضفة الغربية، وأن يمتنع “حزب الله” عن شن “حرب مساندة” جديدة دعماً لحلفائه في جنين وطولكرم، وأن تتصرف ايران وكأن معركة غزة قد انتهت بالنسبة اليها، وأن الأولوية الآن تتمثل في العودة الى المفاوضات النووية قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية من جهة، وقبل وقوع أي خطأ قد يجرها الى حرب اقليمية شاملة تأخذ في طريقها منشآتها العسكرية ومحاورها الأساسية في المنطقة من جهة ثانية.

ويتردد في أوساط الممانعة أن ما يجري في الضفة الغربية ليس عملاً محدوداً في المكان والزمان، ولا جولة أمنية تشبه الجولات الكثيرة التي وقعت في السابق، مشيرة الى أن نتنياهو ربما وضع خريطة متدرجة تبدأ بالقضاء على “حماس” و”الجهاد الاسلامي” في غزة أولاً ثم في الضفة ثانياً، على أن ينتقل بعدها الى جبهة جديدة، بعدما تأكد من أن توحيد الساحات الذي لوحت به طهران لم يكن أكثر من شعار تهويلي فارغ.

ولمحت المصادر الى أن الجبهة الجديدة، لن تكون الا الجبهة اللبنانية التي يديرها “حزب الله”، مؤكدة أن نتنياهو لا يبدو في وارد إنهاء حربه في فلسطين تاركاً أعداء وراءه، أو متساهلاً حيال بذور حرب قد تأتيه من الشمال مستقبلاً.

وليس في هذا الانطباع ما يخالف حقائق في اسرائيل تؤكد أن نتنياهو لن يوافق على أي تسوية أو صفقة لا تتضمن انسحاب “حزب الله” الى مسافة جغرافية يعتد بها سواء طوعاً أو قسراً، وأنه لن يهدأ قبل التأكد من أن حسن نصر الله لن يهدد أمن بلاده مرة جديدة، وقبل أن يتأكد من أن ايران لن تكون قادرة على انتاج قنبلة نووية.

انها في اختصار آخر حروب اسرائيل، بالنسبة الى نتنياهو الذي يردد أمام جنرالاته أن الحرب التي يخوضونها الآن هي التي ستخرج بلادهم من دائرة الخطر الدائم الى دائرة السلام الدائم، وأن أنصاف الحلول لا تعني سوى العودة الى الميدان بين الحين والآخر.

وما يتردد في تل أبيب، لا يجهله حسن نصر الله الذي يدرك هذه المرة أنه أخفق في إثبات توازن الردع أو توازن الرعب مع الدولة العبرية، معترفاً في حلقته الضيقة بأن الحرب التي يخوضها منذ “الثامن من أكتوبر” أفقدته خيرة رجاله من جهة، وهيبته الشخصية من جهة ثانية، وشعبيته المحلية والعربية من جهة ثالثة، وحوّلته من الرجل الذي أذلّ اسرائيل ذات تموز في العام ٢٠٠٦ الى مغامر أرهق بيئته كما لم يرهقها من قبل، ولم يجلب لها النصر الذي كان يبشّر به بعد كل جولة قتالية في لبنان أو في أي من محاور الممانعة.

وتسود أجواء في الضاحية الجنوبية والبقاع أن “حزب الله” أخذ بيئته الى “مجزرة” غير محسوبة ومغامرة غير متكافئة، مشيرة الى أن ما يجري في الضفة الغربية منذ أيام قد ينتقل الى لبنان ما لم تتجاوب ايران مع المساعي الأميركية التي تخّيرها بين الاستغناء عن البرنامج النووي أولاً، وسلطة “حماس” في غزة ثانياً، وسلاح “حزب الله” في الجنوب ثالثاً، وتحرير البحر الأحمر رابعاً، والدخول في معارك حاسمة تضع كل مكتسباتها العقائدية والعسكرية والاقتصادية على المحك.

وما يسهم في تقديم هذه الاحتمالات السود على ما عداها من مخارج هادئة، هو وقوف العالم الاسلامي السني تحديداً في مكان متأهب ومتشنج، بعدما أعلن الامام خامنئي في موقف غريب، أنه يخوض “حرباً لا نهاية لها بين الجبهة الحسينية والجبهة اليزيدية”، مستحضراً بذلك ما جرى في كربلاء قبل ١٤٠٠ عام، ومقدماً حرب الثأر ضد السنة على حرب الثأر من أجل غزة وفلسطين.

وما قاله خامنئي أعاد السنة اللبنانيين بالذاكرة الى “غزوة السابع من أيار” التي اعتبرها حسن نصر الله “يوماً مجيداً”، وانضم بذلك الى حملة شيعية مدروسة أقلقت المسيحيين الذي يستمعون الى تهديدات باستعادة كسروان وجبيل باعتبارها مناطق شيعية “سليبة”.

وقد يسأل سائل، لماذا كل هذا العرض المتشعب والمعقد في هذا الوقت بالذات؟ والجواب لا يحتاج في الواقع الى الكثير من الدلائل والايضاحات، اذ تكفي قراءة سريعة ليدرك المرء أن محور الممانعة ليس في أفضل أحواله، وأن ما فعله في “٧ أكتوبر” للجم سلسلة التطبيع العربي – الاسرائيلي واحتكار الورقة الفلسطينية، وحشر اسرائيل والولايات المتحدة في الزوايا الضيقة، لم يؤتِ الثمار المرجوة وانتهى الأمر في حسابات ايران أنها جعلت التطبيع العربي – الاسرائيلي حاجة ملحة، وأنها خسرت الورقة الفلسطينية المقاتلة، وأخرجت اسرائيل من مشكلاتها السياسية الداخلية وعززت قدرتها الردعية على مستوى الشرق الأوسط كله، وأحبطت نظرية الردع المتوازن بين تل أبيب و”حزب الله”، وأعادت الولايات المتحدة الى المنطقة بعدما تراجعت لمصلحة روسيا والصين.

وأخيراً لا بد من التوقف عند وزير الدفاع الاسرائيلي يوآف غالانت عندما أعلن أن هناك مهمة لا تزال أمام جيشه وهي توسيع الحرب ضد لبنان واعادة سكان الشمال الى منازلهم، فهل يحتاج “حزب الله” الى مؤشر أكثر وضوحاً كي يدرك أن ما بعد “طوفان الأقصى” ليس كما بعد حرب تموز، وأن البقاء عسكرياً في الجنوب لا يدخل في خانة “المقاومة” التي تستهدف تحرير الأرض بل الميليشيا التي تستهدف أرض الآخرين سواء إسناداً أو اعتداء؟

انطوني جعجع- لبنان الكبير

مقالات ذات صلة