القرى الشيعية بكسروان وأعلام حزب الله وصور الشهداء: إسقاط الهوية على الجغرافيا
لافتة المدخل كما الشوارع وزينتها من أعلام حزب الله وصور الشهداء تشهر هوية طائفية وسياسية
الحرب والنازحون والقرى الشيعية بكسروان: إسقاط الهوية على الجغرافيا
تبدو اللافتة التي تستقبل الواصل إلى بلدة “المعيصرة” في فتوح كسروان ملفتة للإنتباه. كتب عليها بخط بارز “من دخلها كان آمناً. ادخلوها بسلام آمنين”. عبارة توحي وكأنها محاولة تمايز، قبل أن تشي شوارع البلدة وساحتها بأن تلك اللافتة جزء من إشهار هوية طائفية وسياسية. فعلى جانبي الطريق رُفعت أعلام حزب الله، ولافتات تحمل صورة أحد أبناء المعيصرة “الشهيد علي مصطفى عمرو شهيداً على طريق القدس”، وصولاً إلى الساحة حيث نصب تذكاري لـ”الشهيد المهندس حسام خوش نويس، رئيس الهيئة الإيرانية لإعمار لبنان”، وليس انتهاء بصور لعدد من الشهداء، بينهم صورة لقاسم سليماني .
“المعيصرة” كما “زيتون” و”الحصين”، هي بلدات شيعية في فتوح كسروان، تَعتبر أنها معنية بتفاصيل الحرب الدائرة في الجنوب، وهو ما لا يبدو واقع حال محيطها من البلدات.
ووسط المخاوف من توسيع إسرائيل لرقعة أهدافها، ووسط شائعات تتردد عن أنفاق وتخزين أسلحة وتدريبات عسكرية في كسروان، والكلام عن حذر ورفض من استدراج الحرب إلى المناطق الكسروانية، قد ينعكس على استقبال النازحين في حال الحرب، جالت “المدن” على المنطقة مستطلعة واقع الحال.
“النازحون جوا ونحنا برا”
ينفي رئيس بلدية “المعيصرة” زهير عمرو في حديثه إلى “المدن” وجود “أي نشاط عسكري في المنطقة الخامسة”. وباستيضاحه عن ماهية “المنطقة الخامسة” يجيب “أنها تعني جبل لبنان والشمال وفق التقسيمات التنظيمية للمناطق بحسب حزب الله”. مؤكداً أنه “لا يوجد أي أسلحة أو أنفاق في هذه المنطقة. هدفنا الأول رفع الحرمان عن الناس”.
وكان عمرو قد أثار موجة من المواقف المتناقضة نتيجة كلمة ألقاها، تناول فيها موضوع النازحين من الجنوب. فهو طلب في لقاء تأبيني “من جميع رؤساء البلديات والمخاتير وعلماء الدين المسيحيين قبل المسلمين، إذا حصل أي نزوح، نحنا برا وكل أهل الجنوب والضاحية جوا. لن نفتح المدارس، نحن نقيم بالمدارس وهم في بيوتنا”، ليضيف: “الغبار اللي ع صراميهن بيسوا الدني كلها”. وليختم “كل شخص منا لديه كرامة وعزة نفس ويقول لبيك يا حسين ولبيك يا نصرالله هيك بدو يعمل”.
كلام عمرو الذي قوبل بتصفيق حاد من قبل أهل البلدة وبعض ضيوفها، لم يكن له الوقع نفسه عند كسروانيين آخرين.
بسؤال رئيس بلدية “الزعيترة”، الملاصقة للمعيصرة، المهندس جورج عون عن الاستعداد لاستقبال النازحين والعلاقة مع القرى الشيعية، يبادر إلى القول “نحن في الزعيترة لا نملك منازل فارغة ولا مدارس أو أدياراً لنفتحها. هو موضوع شخصي يقرره من يريد استقبال النازحين في منزله”.
يؤكد عون “على العلاقة المتينة والصداقة التي تجمعه بعمرو، كما التاريخ الذي يجمع بين بلدتينا. فكان يكفي أن يدق الجرس أو يرفع الآذان للإعلان عن وفاة ليقوم كل منا بواجب العزاء سواء في الكنيسة أو في الجامع. اليوم تغيرت الظروف قليلاً، اجتماعياً، لكن لا تزال العلاقات الممتازة تجمعنا”.
ومن جهته، يقول زهيرعمرو كلاماً مشابهاً عن “عمق العلاقة بين المعيصرة وجوارها. فنحن في كسروان وجبيل رمز العيش المشترك الحقيقي”.
وفي حين يكرر نائب رئيس بلدية الزعيترة دوري خيرالله “الحرص على العلاقات الجيدة واستعدادنا كأهل وأصدقاء لاستقبال النازحين من الجنوب قسراً”، إ لا أنه يضيف “كمفوض لحزب الوطنيين الأحرار في المنطقة، لا أقبل أن يختزلها شخص ويتكلم باسمها ويفرض علينا ما يجب فعله. فنحن نتعاطف إنسانياً مع ضحايا هذه الحرب العبثية، لكننا نقف خلف البطريرك بمطالبته بتحييد لبنان عن صراعات المنطقة وإقحامه في حروب لا دخل له بها”.
كما في “المعيصرة” كذلك في “زيتون”، أقله في النصف الشيعي من البلدة، يمكن تلمس التعاطف مع المقاومة والاستعداد لاستقبال النازحين. وهو ما يتبناه رئيس بلديتها وليم رشيد دعيبس الذي يؤكد “تأييده للمقاومة على رأس السطح، والحرص في الوقت نفسه على حسن العلاقة مع محيطنا وأصرارنا على تجنب أي مشكل”.
من بين الكلام المنمق لدى الجميع وتكرار “الحرص على العيش المشترك”، تتسلل كلمات عن “تغيّر ما” يعزوه كل شخص لأسباب مختلفة.
يقول دعيبس “تغيرت العلاقات لأن أهلنا كانوا فلاحين يعملون بالأرض ويتواصلون بالصراخ ليلاً ليسهروا معاً. بعد أن تعلّم الناس، وتغيّرت ظروف الحياة، انتسب كثيرون إلى الأحزاب، وصار صعباً أن يتفقوا على رأي”.
التغييّر المسكوت عنه
هل الأحزاب كانت سبباً في تغيّر العلاقات بين أبناء كسروان المسيحيين والشيعة؟ يجيب نائب كسروان، عضو تكتل الجمهورية القوية، شوقي الدكاش، أن “حزباً واحداً كان وراء هذا التغيير الذي انسحب، ليس على السياسة فقط، إنما على الحياة الاجتماعية والعلاقات بين الناس. طالما كنا نتشارك مع الشيعة في الأفراح والأتراح. وكانت “العقيبة”، بلدتي، ليست الطريق فقط إلى هذه البلدات إنما هي سوق المعيصرة وزيتون، يتركون أموالهم عندنا أمانة. وكانت كلمة كبارهم مسموعة في المنطقة”. يضيف الدكاش “الأخطر اليوم هو الجيل الجديد الذي يكتسب ثقافة وتقاليد لا تمت إلى كسروان والفتوح بصلة. هؤلاء سيكونون قنبلة موقوتة في مجتمعهم الضيق كما المجتمع الكسرواني الأوسع”.
وعن استقبال النازحين يقول: “أظن أن أهل كسروان سيستقبلون أهلهم وأصدقاءهم في منازلهم، وهو ما فعلناه عام 2006. هذه علاقات إنسانية واجتماعية وصداقات. ذلك لا يلغي أن غالبية المسيحيين، وتحديداً أهالي كسروان-الفتوح وجبيل هم ضد الحرب وضد استفراد حزب الله بقرارها وجر البلد إلى مزيد من الدمار الفعلي والاقتصادي والشرخ السياسي”.
بدوره، لا ينفي النائب فريد الخازن أن “المزاج العام الكسرواني ضد الحرب وحزب الله، لكن برأيي سيفتح الكسروانيون بيوتهم لأصدقائهم أو أصدقاء أقاربهم ومعارفهم. ولن يقتصر الأمر على القرى الشيعية في المنطقة”. يشير الخازن إلى أن “العلاقة بين هذه القرى وبيئتها الكسروانية الطبيعية تغيرت ويعتبر أن “السبب الرئيسي لذلك هو عودة الأحزاب بقوة، سواء المسيحية أو الشيعية. فالشيعة في كسروان الذين تربطنا بهم علاقات تاريخية وطيدة ومودة، صار ارتباطهم خارج المنطقة؛ وحتى الخدمات صاروا يطلبونها من الثنائي الشيعي”.
لا يتجاوز عدد النازحين اليوم المئة شخص في زيتون، ورقم أقل بقليل في المعيصرة، يعيشون في بيئة مضيافة وصديقة.
لكن المسكوت عنه، وما يتحكّم ببواطن الجماعات، يفترض بأحد وجوهه، قراءة الواقع على ضوء إسقاطات التاريخ على الجغرافيا، و”أنا” الجماعة المضخّمة.. وهي كلها حاضرة اليوم في فسيفساء العلاقات الكسروانية.
دنيز عطالله- المدن