رماديّة التّصعيد… وقراءتان لموقع طهران والحزب: إيران تتراجع وتنحني رغم الصخب
مكاسب الحزب وإيران من “تأخير الرّدّ”؟
تنام المنطقة على أنباء سقوط مفاوضات وقف الحرب في غزة، ثمّ تصحو على تنشيط جهود الوسطاء لإنفاذها. هكذا دواليك، على وقع تصعيد ميداني يرتقي كلّ مرّة إلى ذروة جديدة، سواء في القطاع أو الضفة وصولاً للمسجد الأقصى ولبنان.
ترتسم لوحة رمادية تحت سقف منع الحرب الشاملة، فتستهلك مناورات الفرقاء التفاوض الذي يرافق التصعيد. وتتأرجح التوقّعات حول قدرة ونيّة أميركا وإسرائيل وإيران ضبط الميدان للحؤول دون توسّع الحرب.
بين الاغتيالات الإسرائيلية لقيادات فلسطينية في إيران ولبنان ولقادة وكوادر من الحزب وبين الردود المؤجّلة عليها، تتواصل الإبادة في غزة. وحسابات انتظار الانتخابات الرئاسية الأميركية تفرض على كلّ فريق التمسّك بأوراق تبدو له رابحة، ويعتبرها غيره خاسرة. حتى مواقف الفريق الأقوى في الحرب الدائرة، أي واشنطن، باتت مستهلكة بدليل خيبة وزير خارجيتها أنتوني بلينكن بعد تصريحاته في القاهرة التي أوحى فيها أنّ إسرائيل وافقت على انسحاب جيشها من شريط “فيلادلفي” على الحدود مع مصر، فعاجله مكتب بنيامين نتنياهو بالنفي، حتى أنّ مصادر أميركية سرّبت بأنّ تصريحاته جاءت مستعجلة.
السّقطات الأميركيّة
مناورة واشنطن، لأسباب انتخابية، بالسعي إلى وقف الحرب، تسقطها هي الأخرى في التناقض والارتباك. هذا فيما يشكّل رفض إسرائيل الانسحاب من المعبر إحدى العقد الرئيسة لمفاوضات الدوحة الأسبوع الماضي. فمصر تمسّكت مجدّداً بسيادتها على هذا الشريط. إذ إنّ تسليمها ببقاء إسرائيل فيه خلافاً لملحق في اتفاق “كامب ديفيد” منذ عام 2005 يفقدها ورقة رئيسة في غزة. وهذا يعني تحكّم إسرائيل بعلاقتها مع القطاع، الذي يشكّل مجالاً حيوياً لدورها في رسم مستقبل القضية الفلسطينية. لكنّ مصر كوسيط تتّكل على تشدّد “حماس” في بنود أخرى أيضاً في عملية تقطيع الوقت حتى الانتخابات الرئاسية الأميركية. مع ذلك أبقى الحشد الأميركي العسكري غير المسبوق في المنطقة واشنطن القوّة المقرّرة فيها، وأحالت الدولتين المنافستين لها على الصعيد العالمي الصين وروسيا إلى قوّتين قليلتَي الفعّالية ومحدودتَي التأثير. هذا على الرغم من كلّ محاولاتهما لتعزيز موقعَيهما في الشرق الأوسط، إن بالتعاون مع إيران أو مع دول عربية.
نتنياهو ومناورات البقاء
يدرك الوسطاء جميعاً أنّ نتنياهو يدير التصعيد الحاصل والآتي، من أجل الإفادة من المرحلة الفاصلة عن الانتخابات الأميركية لمواصلة الحرب. يوافق على خطّة جو بايدن لصفقة التبادل لإدراكه حاجة الحزب الديمقراطي الانتخابية إليها، تجنباً لخلافات الدولتين الحليفتين. لكنّه يتولّى تقويض المفاوضات بمزيد من الشروط. ويعمل في هذه الأثناء على ترتيب وضعه الداخلي فيدير الصراعات داخل حكومته للإبقاء عليها. يسمح لإيتامار بن غفير أن يقتحم المسجد الأقصى بموازاة إرساله وفد التفاوض على الهدنة. يعلن جيشه القضاء على كتائب حماس في رفح، لكنّه يقصف خيم النازحين ومراكز إيوائهم التابعة لـ”الأونروا”. ثمّ يعلن أنّ بين الإفراج عن الرهائن وبين البقاء في معبر “فيلادلفي” ومحور نتساريم، يفضّل مواصلة السيطرة عليهما. خصومه يرون أنّه يقود إسرائيل إلى مزيد من التراجع في العلاقة مع الإدارة القادمة إلى واشنطن. أمّا هو فيثق بأنّ تشدّده جلب الآلة العسكرية الأميركية الضخمة إلى المنطقة للدفاع عن الدولة العبرية ومشروعه بتكريس تفوّقها الإقليمي. وبذلك تقترب واشنطن أكثر فأكثر من موقفه حيال الحاجة إلى إضعاف إيران، كأولوية تتقدّم على الحلّ مع الفلسطينيين.
طهران تنحني رغم الصخب؟
تقويم مدى نجاعة المناورات التي يفرضها انتظار الانتخابات الرئاسية على إيران أيضاً. فإدارة طهران للصراع على النفوذ الإقليمي بعد 7 أكتوبر تخضع لقراءتين متناقضتين، لا سيما بعد موجة التصعيد الأخيرة:
1- تراجعت القيادة الإيرانية عن التهديد والوعيد بالردّ على اغتيال إسماعيل هنية في عقر دارها، تحت ستار التمهّل بانتظار مفاوضات غزة. وبدت طهران على الرغم من الصخب حول الاستعدادات للردّ، متناغمة مع المناورة الأميركية التي أخّرت مفاوضات غزة 15 يوماً. وهي تؤخّرها أسبوعاً وراء أسبوع كلّما تعثّرت بين الدوحة والقاهرة. وكذلك ردّ الحزب على اغتيال القيادي العسكري الأول، فؤاد شكر، فيما تستمرّ إسرائيل في اصطياد كوادره يومياً في الجنوب. وراوح تبرير ذلك بين اختيار الظروف التي تحول دون توسّع الحرب، وبين استمرار البحث في أن يكون الردّ متزامناً، من إيران ولبنان واليمن، أو أن يكون منفرداً من كلّ من الجبهات الثلاث وفق ظروف كلّ منها. عكس ذلك صعوبة تطبيق شعار وحدة الساحات، خصوصاً أنّ الأمين العام للحزب استثنى جبهتَي العراق وسوريا من الردّ.
2- شمل التشويق الإيراني بقرب الردّ حديث مسؤولين إيرانيين عن مفاجأة والترويج لإمكان أن يكون استخبارياً لا عسكرياً. في حين بدا أنّ قدرات طهران العسكرية لا تتناسب مع حملاتها الدعائية قياساً إلى التفوّق الإسرائيلي المدعوم بالقدرات الأميركية الهائلة. ورافقت هذا التشويق تسريبات عن انتظار جهود إقناع إسرائيل بأن يكون ردّها على الردّ محدوداً، وهو ما يساعد في احتواء التصعيد. وذهبت بعض التكهّنات والمعطيات إلى حدّ القول إنّ طهران تخوّفت من استخدام إسرائيل وجودها في دولة أذربيجان الجارة، وإنّها وسّطت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي زار باكو من أجل الطلب إلى سلطاتها عدم تسهيل أيّ عمل عسكري مؤذٍ لإيران من أراضيها.
3- القيادة الإيرانية فضّلت الانحناء وفتح خطوط التفاوض مع أميركا على الرغم من اتّهامها بأنّها تشارك إسرائيل في الضغوط عليها.
4- ظهرت تباينات داخلية بين أجنحة النظام الإيراني حول طبيعة الردّ في ظلّ تهيّؤ حكومة الرئيس الجديد مسعود بزشكيان لتسلّم مهمّاتها. شعار الأخير الانفتاح على الغرب وتجنّب ما يضاعف صعوبات الاقتصاد الإيراني المترهّل، في حال المواجهة مع إسرائيل وأميركا.
5- زاد الحزب بتهديداته، على الرغم من تمهّله، من خصوماته اللبنانية الداخلية ومن الحملات عليه لأنّه يورّط البلد في احتمال حرب مع إسرائيل. وهذا يقود إلى دماره، وسط غياب أفق إعادة الإعمار كما حصل عام 2006، ويعمّق تدهور اقتصاده. وهذا سينعكس على موقعه السياسي المستقبلي.
مكاسب الحزب وإيران من “تأخير الرّدّ”؟
مقابل هذه القراءة للموقف الإيراني يبدو قادة محور الممانعة وسردية الحزب لوقائع الأسابيع الماضية والأشهر الفاصلة عن الاستحقاق الانتخابي الأميركي كالآتي:
1- إيران هي المفاوض الرئيسي لأميركا وإسرائيل. فقبل وعلى هامش وبعد المفاوضات في الدوحة، أو في القاهرة، يجري التواصل معها. يطلب الأميركيون من القيادة القطرية إبلاغها بأجواء التفاوض. حتى الجانب المصري يتواصل مع طهران، بحجّة الطلب إليها تأخير ردّها على اغتيال هنية لإنجاح مفاوضات غزة. وقنوات التواصل معها تشمل أيضاً عُمان وسويسرا والعراق. وفي لبنان يتولّى دبلوماسيون دوليون من الأمم المتحدة وسفارات غربية إيصال الرسائل إلى قيادة الحزب، ثمّ ينقلون أجوبة قيادته إلى تل أبيب.
2- طهران لا تريد توسيع الحرب وتعتبر إحباط أيّ محاولة من نتنياهو للتسبّب بها وإقحام أميركا فيها نجاحاً لها لأسباب عدّة:
– تثبت مرونتها التفاوضية عكس اتّهامها بالتشدّد وتمارس في الوقت نفسه سياسة النفس الطويل الذي يتميّز به العقل الفارسي.
– سلّفت الإدارة الأميركية تأخير الردّ على اغتيال هنية لحرصها على ألّا يحصل في هذا التوقيت الذي يحرج بايدن. ففي الزمن الانتخابي سيضطرّ إلى التناغم مع إسرائيل أكثر. لكنّ طهران أكّدت أنّ تأجيل الردّ لا يعني إلغاءه. والجانب الإيراني مقتنع بأنّ واشنطن لا تريد الحرب، وأنّها تراهن على استئناف التفاوض حول الاستقرار في جنوب لبنان. وهناك شوط قطعته المفاوضات مع الموفد آموس هوكستين حول الحدود البرّية يمكن البناء عليه.
– تجنُّب طهران الحرب يعود إلى اعتبارها الحزب في لبنان الاحتياطي الاستراتيجي الكبير لمصلحتها في المنطقة كما هو معروف. وهي لا تريد التفريط به في أيّ حرب لتأثيره السياسي والجغرافي في المنطقة.
3- الحزب لا يعتبر نفسه تحت الضغط العسكري أو السياسي في لبنان. فهو يبقي ردوده وتصعيده ضدّ العمليات العسكرية التي تطاله تحت سقف تجنّب المواقع المدنية في إسرائيل. لكنّه يتسبّب بضربات موجعة عسكرياً وفي العمق الإسرائيلي. أمّا إذا نجح نتنياهو في توسيع الحرب، فإنّ قيادة الحزب تتصرّف على قاعدة “لا حول ولا قوّة”، مدركة أنّ تل أبيب قادرة على إلحاق التدمير بالبلد، وأنّ إمكانات الحزب ستلحق دماراً مماثلاً بإسرائيل.
4- لا يقيم الحزب وزناً للاعتراضات اللبنانية الداخلية على دوره في المواجهات الدائرة جنوباً. فهي تتعاطى مع الصراع الدائر على أنّه يتخطّى لبنان إلى الإقليم برمّته.
وليد شقير- اساس