أميركا تلجم الثأر وايران تجد لنفسها سقفاً تتلطى به: رحم الله هنية!
ثلاثة أحزمة ناسفة قررت تفجير نفسها علها تصل الى النصر أو علها تصل الى الجنة
ليس سراً أن “حزب الله” يمر بواحدة من أكثر مغامراته احراجاً وأكثر حساباته ارباكاً، هامساً في كواليسه أن القرار الذي اتخذه في الثامن من أكتوبر كان أكثر تهوراً من القرار الذي اتخذه عشية اندلاع حرب تموز في العام ٢٠٠٦، وأن الخروج منه خرج عن السيطرة.
وفي قراءة سريعة لما آلت اليه الأمور بعد عشرة أشهر من القتال، توصل حسن نصر الله إلى التأكد من أن “توازن الرعب” الذي طالما تغنى به ليس بقدر ما اعتقد أو راهن، وأن نسبة “التحصن” داخل منظومته الأمنية ليست بقدر ما آمن به واطمأن اليه، وأن نوعية الحرب التي أعد نفسه لها طويلاً لم تكن على قدر توقعاته وتدريباته.
وأكثر من ذلك يدرك نصر الله، وهو يجلس في غرفة عمليات عسكرية فقدت معظم أركانها الكبار، أن الحرب التي يخوضها داخل صفوفه هي أخطر وأشرس من تلك القائمة في الخارج، وأن المعركة التي يخوضها اليوم تختلف عن المعارك التي كانت تحيّد الرؤوس الكبيرة وتتحاشى التحديات التي يمكن أن تفجر حروباً أكثر شراسة واتساعاً، وأن التقنية الاستخبارية التي توصلت اليها تل أبيب تعني أن الوصول اليه شخصياً ليس أمراً مستحيلاً.
ومع مقتل فؤاد شكر ثم اسماعيل هنية، بات نصر الله الذي حاول في خطابه الأخير اخفاء مرارته في مكان ومأزقه في مكان آخر أمام أمرين: الأول أنه لا يستطيع اللجوء الى رد يدفع الجيش الاسرائيلي الى جنون بري وجوي يحول لبنان الى “غزة كبرى”، ولا يستطيع اللجوء الى رد من باب رفع العتب تجنباً لمزيد من الطعن في هيبته ومشروعه العقائدي والسياسي، والثاني أنه لا يستطيع الاعتماد على ايران التي قررت الاكتفاء بما يمكن أن يفعله أنصارها في لبنان واليمن وغزة.
لكن المأزق الأكبر في حسابات ايران والضاحية الجنوبية، أن الحرب مع اسرائيل لن تكون الا حرباً مع الولايات المتحدة التي حشدت في البحرين المتوسط والأحمر وفي بر الشرق الأوسط ما لم تحشده تقريباً قبيل اجتياح العراق لا من حيث العدة ولا من حيث النوعية، في خطوة يعرف خامنئي ونصر الله أنها ليست خطوة تهويلية أو استعراضية ولا خطوة لا تحمل هدفاً آخر يتجاوز هدف الدفاع عن إسرائيل وحسب.
والمقصود هنا، أن الولايات المتحدة وجدت لنفسها فرصة للوصول، قبل اسرائيل، الى واحد من هدفين: الأول استغلال أي اعتداء ايراني محرج على تل أبيب للانطلاق منه نحو قصف المنشآت النووية الايرانية، وهو ما يفسر نشر طائرات ذات قدرة تدميرية هائلة من طراز “اف ٢٢”، والثاني جر ايران سياسياً الى اتفاق جديد يلجم مشروعها النووي المتقدم قبيل انتهاء ولاية الرئيس جو بايدن.
ولعل هذا الخوف تحديداً هو الذي دفع ايران الى تجنب التصعيد، ودفع نصر الله الى تبرير هذا الموقف في خطبة خيّبت العرب والمسلمين معاً، اذ ان المهم بالنسبة الى الرجلين هو الحصول على أكبر قدر من الوقت اللازم لانتاج القنبلة النووية العتيدة، وان أي أمر آخر ليس الا مجرد تفاصيل قابلة للتطور صعوداً أو هبوطاً.
هذا في الحسابات الأميركية، اما في الميدان، فالأمر مختلف يقول ديبلوماسي غربي، اذ ان ما تفكر فيه أميركا هو غير ما يفكر فيه بنيامين نتنياهو المتفلت حتى الآن من أي ضوابط أو مكابح، مصمماً على مواصلة الحرب حتى النهاية، كاشفاً أن رئيس الوزراء الاسرائيلي وضع أركانه أمام هدفين: الأول اعادة الحدود الايرانية الى مكانها على ضفاف الخليج من خلال ضرب “حماس” في غزة و”حزب الله” في لبنان، والثاني منع ايران بالقوة من انتاج قنبلة نووية سواء أبت أميركا أو شاءت، أو سواء اندلعت حرب اقليمية أو عالمية، معتبراً أن وجود قنبلة نووية في ايران يعني حذف بلاده من الوجود.
ويضيف الديبلوماسي الغربي، ان نتنياهو بدأ ينظر الى الحرب على أنها “نوع من المتعة” يظهر فيها يده الطولى والقدرة على الوصول الى غرف نوم خصومه، وعلى استفزازهم بطريقة تضعهم أمام أمرين: اما “ابتلاع الجرح واما السعي الى جرح آخر”، مشيراً الى أنه يعرف في قرارة نفسه أن ما يفعله لا يستفز الا ايران وأذرعها، بعدما تحول محور الممانعة عربياً ودولياً الى محور لا يؤتمن على أي استقرار أو تسوية في المنطقة، وبعدما أدركت الولايات المتحدة التي أرسلت قائد القيادة المركزية الأميركية الى اسرائيل مرتين في أسبوع، أن الوقت حان لتصويب ميزان القوى في العالم واستعادة بعض المبادرات الردعية على غرار الهجوم المضاد الذي شنته أوكرانيا في عمق الأراضي الروسية.
وانطلاقاً من هذه الأجواء، وفي انتظار الرد المرتقب، وجدت ايران لنفسها سقفاً تتلطى به تلافياً لما تعتبره “حرباً واسعة” لا يريدها أحد وذلك تحت شعار رحم الله هنية، في حين يقف ثلاثة رجال فقط في مواجهة اسرائيل وأميركا وثلاثة أرباع العالم، هم حسن نصر الله المصاب في كرامته، ويحيى السنوار المصاب في عرينه، وعبد الملك الحوثي المصاب في عقر داره، أو في معنى آخر ثلاثة رؤوس مطلوبة في أي مكان وبأي ثمن، أو ثلاثة أحزمة ناسفة قررت تفجير نفسها علها تصل الى النصر أو علها تصل الى الجنة.
انطوني جعجع- لبنان الكبير