المواجهة الإسرائيلية – الإيرانية وصلت إلى مكان خطير جداً وتوسعت: لبنان والأراضي الإيرانية أيضاً!
للمرة الأولى تتمظهر صورة مواجهة بين إيران وإسرائيل تبدو مختلفة عما سبق. وللمرة الأولى تصل القوتان الإقليميتان إلى حد الصدام المباشر الذي إن حصل يمكن أن يدفع المنطقة إلى انفجار كبير يتعدى إطار إيران وإسرائيل. هذا الانفجار إن حصل له تداعيات خطيرة في الإقليم من تركيا إلى مصر، وصولاً إلى دول مجلس التعاون الخليجي، وانتهاء بباكستان والهند. ولن يبقى العالم بقواه الكبرى بعيداً عنها، بل يمكن أن يتورط بدءاً من الولايات المتحدة المعنية بأمن إسرائيل، وسلامتها الوجودية، مروراً بروسيا المعنية بتحالفاتها الاستراتيجية مع إيران، وصولاً إلى الصين المرتبطة بشبكة علاقات وتحالفات في المنطقة عابرة للحلفاء والخصوم.
ولعل العامل الذي استجد في مشهد التجاذب ولا أقول العداء بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية وإسرائيل، هو أن “ديالكتيك” العلاقة المتوترة بينهما وصل إلى مكان خطير جداً عليهما. فعملية “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 شكلت في مكان ما إعلاناً إيرانياً مباشراً ضد مشروع التطبيع العربي – الإسرائيلي الذي انطلق بالاتفاقات الابراهيمية، وكاد يصل في العام الماضي وفق تصريحات لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الى خواتيم سعيدة لو أن الحكومات الإسرائيلية اليمينية قبلت حل الدولتين وفق روحية مبادرة الملك عبدالله بن عبد العزيز في قمة بيروت عام 2002، وضد مشروع الممر الهندي الذي كان أعلن قبل هجوم حركة “حماس” عل غلاف غزة بحوالي الشهر، وذلك باعتباره خطاً موازياً لمشروع طريق الحرير الصيني. وأتى في سياق محاولة طهران تحقيق اختراق حاسم في المنطقة تحت عنوان القضية الفلسطينية التي لطالما مثلت حجر الزاوية من الناحية المعنوية والدعائية في السياسة الخارجية الإيرانية في المنطقة. وبالرغم من أن هجوم السابع من أكتوبر لم يؤثر عملياً وبشكل سلبي على الاتفاقات الابراهيمية، فإنه لم يوقف التفاوض بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة بشأن مشروع التطبيع السعودي مع إسرائيل، الذي استمر وسط إصرار الرياض على تحقق مجموعة شروط، أولها إقرار الدولة الفلسطينية، ووضع مسار تنفيذي واضح للوصول إليها، ثم الاتفاق مع الولايات المتحدة على مجموعة اتفاقات أمنية استراتيجية يتم إقرارها في الكونغرس الأميركي وليس عبر الإدارة وحدها، وأخيراً تحالف تكنولوجي واسع النطاق النووي المدني، وعلى مستوى الصناعات التكنولوجية المتقدمة العالية الدقة.
لكن حرب غزة نجحت إلى حد ما من خلال ما شكلته بمضاعفاتها من ضغط على الممرات البحرية الدولية الاستراتيجية التي تعبر من المحيط الهندي الى البحر الأبيض المتوسط. ولعل قيام طهران بتحريك ورقة الحوثيين في اليمن لعرقلة الملاحة البحرية الدولية عبر مضيق باب المندب وقناة السويس، مع مراعاة تحييد مضيف هرمز الذي تشترك فيه إيران مع جيرانها من مجلس التعاون الخليجي، وكذلك تحريك ورقة “حزب الله”، الذراع الإيرانية في لبنان، تحت شعار “حرب الإسناد” لغزة، ذكّر الإسرائيليين أن الهدنة التي سادت مع إسرائيل عند الحدود اللبنانية لم تكن أكثر من محطة مرحلية في الصراع على النفوذ والتحالفات بين القوتين الإقليميتين الرئيسيتين. فقد استطاع “حزب الله” بدعم من إيران عبر “الحرس الثوري” وأداته الإقليمية في العالم العربي “فيلق القدس” أن يبني قوة عسكرية تضاهي حسب المراقبين العسكريين جيشاً نظامياً ذا قدرات عسكرية فاعلة في دولة متوسطة. وهذه القوة التي ظلت نائمة منذ حرب تموز (يوليو) 2006 استفاقت بعد الثامن من أكتوبر 2023، وأيقظت معها إسرائيل والغرب. فقد أثبتت صحة النظرية التي كانت تقول إن إيران هي جارة إسرائيل وليس حزباً لبنانياً يدعى “حزب الله”. والدليل أن الحزب المذكور خسر في الأشهر العشرة من المواجهة بين 400 و450 عنصراً وقيادياً ميدانياً، وآخر القادة رئيس الأركان فؤاد شُكر، ومع ذلك حافظ على مجمل قوته النارية وقدراته على إيذاء اسرائيل بشكل كبير.
ومع التصعيد الذي مثله قيام إسرائيل في الأول من نيسان (أبريل) الماضي بتدمير أحد أجنحة القنصلية الإيرانية في دمشق وقتل سبعة من أرفع القادة العسكريين في “فيلق القدس” التابع لـ”الحرس الثوري” الإيراني، حصلت نقلة نوعية خطيرة في الصراع بين إيران وإسرائيل تمثلت بردّ إيراني تم في 13 – 14 نيسان استهدف للمرة الأولى منذ حرب الكويت الأولى الأراضي الإسرائيلية بصواريخ ومسيّرات أطلقتها طهران مباشرة من دون المرور بالفصائل المرتبطة بنفوذها أكان في لبنان، أو سوريا، أو العراق، أو اليمن.
لكن التطورات الدراماتيكية التي شهدتها المنطقة في الأسبوع المنصرم، من اغتيال رئيس أركان “حزب الله” في معقل الحزب في ضاحية بيروت الجنوبية، إلى اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية في قلب طهران، فاغتيال قادة ميدانيين من الفصائل العراقية المرتبطة بإيران في جرف الصخر، غيرت المعادلة بشكل كبير، لا سيما من خلال ضربتي طهران والضاحية الجنوبية لبيروت. فقد أتت كرسالة إسرائيلية موجهة لإيران مفادها أن عملية “الوعد الصادق” رداً على استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق فشلت في إرساء قواعد اشتباك تسعى إليها طهران. والأهم أن ضربتي طهران وبيروت هدفتا إلى القول جهاراً إن المعركة انتقلت إلى الأراضي الإيرانية. بمعنى آخر أن استهداف الأراضي الإسرائيلية سيقابل باستهداف الأراضي الإيرانية. فاغتيال إسماعيل هنية حصل في العاصمة طهران، وفي قلب مجمع رسمي لكبار الضيوف الأجانب، وهو عبارة عن مربع أمني بحراسة “الحرس الثوري”. أما المبنى فتحت إشراف أمني من جهاز تابع لـ”الحرس الثوري” يدعى “أنصار المهدي”. أما اغتيال رئيس أركان الجهاز العسكري لـ”حزب الله” فؤاد شكر فقد تم في ضاحية بيروت الجنوبية في قلب المربع الأمني في حارة حريك، باعتبار أن “حزب الله” هو الفصيل الوحيد الذي يصنف كامتداد لتركيبة النظام الإيراني. وهذا التصنيف يجعل من الساحة اللبنانية في القراءة الإسرائيلية جزءاً من الساحة الإيرانية نفسها. وأتت مواقف العديد من المسؤولين الإيرانيين الذين هددوا بتدخل إيراني مباشر رداً على إمكانية شن إسرائيل حرباً على “حزب الله” في لبنان لتؤكد مدى أهمية الحزب المذكور في المعادلة الأمنية الإيرانية في الإقليم. وبالتالي فإن المعادلة التي أراد الاسرائيليون إرساءها تقوم على الرد على ايران مباشرة أو على “حزب الله” في لبنان.
ومحاولة إسرائيل إرساء معادلة جديدة تخرج طهران من لعبة الاختباء خلف الفصائل، لها مقدماتها في عقل الاستابليشمنت الإسرائيلي. ونحن نتذكر قولاً لرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق نفتالي بينيت الذي صرح عام 2022 أن بلاده “أصبحت تعتمد على عقيدة جديدة في تعاملها مع ايران تقوم على استهداف رأس الأخطبوط بدلاً من المخالب”. وكانت هذه النظرية أساساً في قيام اسرائيل بتكثيف عمليات “الموساد” في قلب إيران واستهداف الصناعات الحربية المرتبطة بسلاح الطائرات المسيرة، واغتيال قادة من “الحرس الثوري” على الأراضي الإيرانية، فضلاً عن علماء مرتبطين بالبرنامج النووي، وأخيراً وليس آخراً القيام بعملات تخريبية داخل المنشآت النووية الإيرانية.
من هذه المقدمات وهذه الزاوية يمكن الحديث عن اغتيال هنيّة وشُكر. في القاموس الإسرائيلي هي عمليات على الأرض الإيرانية. والرد الإيراني المباشر وحده أو مقروناً بردّ “حزب الله” سيواجه بردّ على الرد في قلب إيران ولبنان في آن معاً. واستنتاجاً يمكن تصور المضاعفات، وتالياً يمكن فهم أهمية تفعيل القنوات الدبلوماسية كما هو حاصل الآن بهدف حصر الرد الإيراني ضمن نطاق وحجم شبيهين بعملية “الوعد الصادق”! لكن الفارق أن بنيامين نتنياهو يبدو كمن يبحث عن أقل الأعذار من أجل جرّ إيران إلى ساحة المواجهة المباشرة.
علي حماده- النهار العربي