لا أحد أكثر من وليد جنبلاط يقرأ اللحظة: هذا ما رآه “البيك”..
وليد جنبلاط.. عودة “البيك” إلى صباه
لا أحد أكثر من وليد جنبلاط يقرأ اللحظة، ويستشرف ما بعدها. فوق انهماك الجميع بالحرب على غزة، واحتمالية تطوّرها وتوسّعها لتتحوّل إلى حرب إقليمية، هناك انهماك من نوع آخر لدى سياسيين ودبلوماسيين ومسؤولين دوليين بمواقف وليد جنبلاط. تتجاوز مواقف الرجل مسألة “إعادة التموضع”، لا بل يبدو المصطلح فيه الكثير من الاستخفاف والتقليل من حجم الحدث ومخاطره ومآثره.
منذ اللحظة الأولى لعملية طوفان الأقصى، وردّة الفعل الإسرائيلية المستندة إلى دعم أميركي وغربي كامل استفاد منه بنيامين نتنياهو لإعادة إحياء مشروع قديم جديد هو تهجير الفلسطينيين، أو تثبيت معادلة إسرائيلية تعود إلى ما قبل بن غوريون وتقوم على أنّ الفلسطيني المقبول هو الفلسطيني المقتول، كان موقف وليد جنبلاط واضحاً، في صفّ المقاومة، إلى جانبها وفي مواجهة محاولة الإسرائيليين إغراق المنطقة بحرب إقليمية. هنا تركّزت في خلفية عقل الرجل محطّات تاريخية كثيرة:
– أولاها: استعاد شبابه السياسي الذي بدأه في تظاهرة مناصرة للفلسطينيين في لبنان يوم 23 نيسان 1969.
– ثانيتها: صورة والده كمال جنبلاط، شهيد فلسطين وهو إلى جانب ياسر عرفات بالكوفيّة الفلسطينية.
– ثالثتها: تجربته الشخصية في قيادة الحركة الوطنية وجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية في التصدّي للاجتياح الإسرائيلي.
– رابعتها: مواجهة مشروع إسرائيل الذي ارتكز في السبعينيات والثمانينيات على منطق “الدويلات الطائفية الأقلّوية”.
– خامستها: مواجهة مشروع تعرّض له الدروز، وهو محاولة تهجيرهم من جبل لبنان الجنوبي بعدما رفضوا منطق “الدولة الدرزية التي تربط بين وادي التيم وجزء من الجولان والسويداء وجبل الشوف، لا سيما أنّ مواقف جنبلاط والمستمدّة من والده كانت واضحة في التماهي مع البحر العربي لا مع تجزئته، حتى إنّ الدور الأكبر الذي نجح آل جنبلاط في القيام به كان من خلال الخروج إلى المجال الرحب الأوسع وعدم الانزواء داخل حدود الطائفة.
– سادستها: قرأ وليد جنبلاط المشروع الإسرائيلي الساعي إلى تهجير الفلسطينيين من غزة واستعداده للانقضاض على الضفّة بعمليات تهجير مماثلة ومواصلة سياسة الاستيطان، وهو ما سيشكّل خطراً على الأمن القومي العربي، وخصوصاً المصري والأردني. وهو أحد أبرز الذين انتقدوا مشاريع التهجير والترانسفير التي تشهدها المنطقة منذ اجتياح العراق إلى الحرب السورية وصولاً إلى فلسطين.
هذا ما رآه جنبلاط..
بالارتكاز على هذه النقاط، يجدر القول إنّ وليد جنبلاط يتعاطى في موقفه مع ثوابت لا يمكنه أن يحيد عنها. وهذا يرتبط بالخلفيّة، وبالرؤية المستقبلية التي يريد فيها للدروز أن يكونوا منخرطين ضمن مجتمعاتهم لا أن يتحوّلوا دخلاء عليها كما يحاول الإسرائيليون أن يفعلوا. من هنا بادر جنبلاط إلى سلسلة مواقف أهمّها:
1- فتح خطوط تواصل بشكل كامل مع الحزب على قاعدة الشراكة الوطنية وتوفير مظلّة حماية سياسية للحزب لقطع الطريق على أيّ محاولة إسرائيلية لاستغلال الانقسام الداخلي وتغذيته.
2- توفير بيئة اجتماعية لبنانية حاضنة لبيئة الحزب في حال تطوّر مسار الحرب وحصلت عمليات تهجير من الجنوب.
3- زيادة التنسيق مع رئيس مجلس النواب نبيه بري لتشكيل موقف لبناني معارض للحرب وتوسيعها.
4- خلق سجال مع شيخ عقل طائفة الموحّدين الدروز في إسرائيل موفق طريف الذي استقبل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأعلن تأييد دروز فلسطين لإسرائيل إلى جانب مشاركتهم في القتال بصفوف الجيش الإسرائيلي.
بالنسبة إلى جنبلاط، فإنّ الدخول في هذا السجال مع طريف أو مع غيره هو بحدّ ذاته مسألة إيجابية لخلق نوع من إشكاليات وجدالات في صفوف البيئة الدرزية العربية ككلّ لعدم الاستسلام لرواية طريف أو لأيّ رواية إسرائيلية ترتكز على منطق الأقلّيات، لا سيما أنّ الإسرائيليين حاولوا على ألسنة الكثير من المسؤولين تصوير المعركة بأنّها مواجهة بين اليهود والدروز من جهة والحزب والشيعة من جهة أخرى، وقد قالها وزير الخارجية الإسرائيلي السابق أفيغدور ليبرمان بشكل واضح.
في التراث الجنبلاطي، هناك دائماً في المحطّات الكبرى أو المفاصل التاريخية، ما يُسمّى “بالموقف للتاريخ”، وهذا الموقف لا بدّ من أخذه مهما كانت تبعاته لأنّه موقف يحسب على دار المختارة. اتّخذ جنبلاط الموقف للتاريخ بمعزل عن كلّ السجالات التي يمكن أن تخلق من حوله والتي أصبحت قائمة وتكاثرت أكثر بعد مواقفه الأخيرة التي أكثر منها، وأكثر فيها من تأييد الحزب ومساندته.
يعتبر جنبلاط نفسه في الموقع الصحيح، أو على الضفة الصائبة من التاريخ. يترفّع عن أيّ سجال سياسي ينطلق من خلفيّة اعتباره أنّه أعاد تموضعه إلى جانب الحزب وإيران نزولاً عند حسابات سياسية قد تخلص في النهاية إلى أنّ الحزب صاحب القوة الكبرى في لبنان وصاحب التأثير في مجريات المنطقة سيكون هو المستفيد من أيّ تسوية سياسية ستقبل على البلاد والمنطقة. تبقى هذه تفاصيل في المرحلة الحالية.
مواجهة التحدّيات مستمرّة
الرجل أيضاً يواجه تحدّيات كثيرة ليست آنيّة، بل مستمرّة منذ سنوات وستبقى قائمة لسنوات لاحقة:
– لا يريد الرجل أن تكون بين الدروز والشيعة خصومة أو مواجهة بالمعنى الاجتماعي.
– كما يتمسّك الدروز بأرضهم ومناطقهم، فإنّ الشيعة أيضاً يتمسّكون بأراضيهم، وهم متشبّثون بأرض الجنوب، وبالتالي لا بدّ من رفض أيّ مشروع لتهجيرهم من الشريط الحدودي كما يحاول الإسرائيلي أن يفعل من خلال عمليات التدمير الممنهج.
– منذ ثورة 17 تشرين يعتبر الرجل أنّه يتعرّض لحملة ممنهجة تحاول تسجيل اختراقات في صفوف البيئة الدرزية.
– يواجه محاولات إسرائيلية كثيرة لاختراق البيئة الدرزية من خلال إغراءات مذهبية أو ماليّة أو غيرها، بينما لبنان يعيش أقسى أزمة مالية واقتصادية واجتماعية في تاريخه.
– يتصدّى لأيّ محاولة من شأنها أن تحاصر الدروز في بيئتهم وتجرّهم إلى أيّ مشاكل قد تفتعل خارجياً لأجل الدخول في مواجهات ستنعكس سلباً بالمعنى الاجتماعي والديمغرافي.
كلّ هذه الصور والأفكار حاضرة في ذهن جنبلاط، الذي لا يزال يؤمن بفكرة بروز مشروع عربي قادر على استعادة التوازن على مستوى المنطقة، بدلاً من الغياب الكامل عمّا يجري في غزة ومحيطها. ليس ما يقوم به جنبلاط هو إعادة تموضع أو الوقوف إلى جانب إيران، بل الانطلاق من الثوابت التاريخية التي تتلاقى أيضاً مع الثوابت العربية، بما يتجاوز أيّ خلافات سياسية أو عقائدية بين السُّنّة والشيعة.
خالد البواب- اساس