لبنان المرقص vs لبنان السّاحة: معادلة كاذبة…اسألوا البنك الدولي وإحصاءاته عن الفقر والثراء!
يتحمّس البعض، على طريقة “حمَّسُوني”، فيبالغون في اعتبار أنّ حفلات الصيف الفنّية في بيروت هي تعبير عن “حبّ الحياة” ومعسكره. وهذا ليس دقيقاً. فيما يتحمّس آخرون ويبالغون، فيخبروننا أنّ دخول الحروب ونشر الدمار بيننا وتعريضنا لخطر الموت، هي زبدة “حبّ الحياة”، عن طريق خلفيّ، هو التضحية والشهادة، ليعيش الآخرون بسلام. وهذا ليس صحيحاً أيضاً. وهنا يتدخّل متحمّسون من نوع ثالث، ليقولوا لنا إنّ هذين الرأيين يعبّران عن لبنان وصورته، المقسومة بين حفلة رقص وغناء، وبين صاروخ ودماء. وليس هؤلاء أقلّ خطأ من أولئك. It’s Complicated.
هل فعلاً يعبّر لبنان عن حبّه للحياة بحفلة غنائية لوائل كفوري أو محمد رمضان أو نانسي عجرم؟
وهل صحيح أنّ حبّ الحياة لا يستقيم من دون عشرة آلاف يرقصون على أنغام عمرو دياب في وسط بيروت؟
وهل صحيحٌ أنّ “حبّ الحياة بكرامة” لا يكون إلا بطريق خلفيّ، هو الموت والحرب، دفاعاً عن عناوين لا يمكن حمايتها بغير الدماء والصواريخ؟
أم الأصحّ أنّ لبنان لطالما كان مقسوماً بين الراقصين حتّى الفجر، والمصلّين فجراً قبل أن يتوجّهوا لتنفيذ عمليات عسكرية، إن في الداخل، أو في الخارج؟
من هم زبائن المراقص والحفلات؟
لنتّفق أوّلاً على أنّ زبائن المراقص والحفلات هم من المقتدرين والمتوسّطي الحال والأثرياء، من جهات لبنان الأربع. فيهم الشيعة من مناصري الحزب والمنتفعين من صواريخه ومنظومته، وإن كانت نساؤهم بلا حجاب وأولادهم في جهات الغرب الكثيرة. وفيهم السُّنّة والمسيحيون والدروز، والعلمانيون بالطبع. لكنّ ما يجمعهم ليس “حبّ الحياة” بقدر ما هو “القدرة الشرائية”، التي تسمح لهم بشراء التذاكر. تلك “القدرة” على الاستمرار في حياة البذخ، على الرغم من الانهيار الكبير المستمرّ منذ سنواتٍ خمس.
هؤلاء كثيرون وكثيرات. يميلون مع كلّ ريح. قيل فيهم إنّهم “مع الواقف حتّى تنجلي المواقف”. يمكن أن يكونوا مع المقاومة في عهدها، وضدّها في عهد غيرها. هؤلاء من التجّار وأصحاب الشركات والمستفيدين. بعضهم يلاعب فساد الإدارات العامّة، ومنهم متهرّبون من دفع الضرائب. وطبعاً بينهم سارقون أنيقون وناهبون بربطات عنق ومناصب. وطبعاً هناك أبناؤهم وبناتهم وزوجاتهم وأنسباؤهم وموظّفوهم…
كثيرون من مناصري “المقاومة” قد يكونون من محبّي الرقص. هؤلاء يستنفرون على أنغام أيّ أغنية تداعب مشاعرهم “الجنوبية”. يمرّر لهم كلّ مطرب ومغنٍّ وراقص، كلمات جميلة عن الجنوب والصمود، ثمّ يكملون سهرتهم.
أيضاً كثيرون من جمهور “المقاومة” يحبّون الحفلات. لكن لا طاقة لهم ولا “قدرة” على الانتساب إلى مجتمعات وسط بيروت وشرقها وغربها. هؤلاء ممّن لا حول لهم ولا قوّة، ولا مكان لهم في دوائر الراقصين على أنغام الحفلات الفارهة والليالي المترفة والحفلات التي تناطح الفجر، لكبار مغنّي لبنان والوطن العربي.
كلّ رافضي الحرب يرقصون بالضرورة؟
في الجهة الأخرى، ليس كلّ معارض لحرب الحزب في جنوب لبنان، إسناداً لغزّة، ستراه بالضرورة يرقص في وسط بيروت في حفلة “الشامي”. كثيرون من هؤلاء يتفرّقون بين:
– متديّن: مسلم أو مسيحي أو درزي، سنّي أو شيعي. يكون بطبيعة الحال بعيداً عن حياة الرقص والسهر.
– فقير: لا يملك ثمن “التذكرة”. وليس منتسباً إلى تلك التجمّعات البشرية العارمة، التي تبلغ الآلاف وعشرات الآلاف في كلّ حفلة (حفل عمرو دياب جمع 16 ألفاً بحسب التقديرات).
– غير مبالٍ: قد يملك “القدرة”، لكن لا يملك “الرغبة” في الرقص والسهر.
– متفرّقات: أنواع أخرى من غير الراغبين في السهر، لأسباب كثيرة.
بالتالي هذان التصنيف والتعليب “التعميميّان” يداومان على محاولة إقناعنا بأنّ لبنان ينقسم بين راقصين ومقاتلين. وهذا ليس صحيحاً لا من قريب ولا من بعيد.
القسمة الحقيقيّة: فقراء وأغنياء
لبنان ليس الرقص والفقش، ولا الصواريخ. ليس صحيحاً أنّه مقسوم بين من يريدون الرقص ومن يريدون الموت. هذه القسمة ظالمة.
القسمة الأقرب إلى الواقع في لبنان هي بين فقراء وأثرياء. الفقراء، مقاومين أو يمينيّين، مسيحيين أو مسلمين، متديّنين أو غير ملتزمين، فاجرين وفاسقين أو أتقياء ورعين… هم فقراء. لن تجدهم في قسمة الكليشيه التي يحبّها الإعلام.
والأثرياء، كذلك أيّاً كانت خلفيّاتهم، هم الأثرياء. وهم أقرباء وأنسباء، أصدقاء وأعدقاء. المال لا طائفة له. كذلك المصالح. كما أنّ الفقر لا مذهب له.
لذلك آن الأوان للتوقّف عن تعميم هذه الفكرة، وعن ممارسة هذه اللعبة. لبنان ليس مقسوماً بين من “يحبّون الحياة”، بكلّ ما في هذا التوصيف من ظلم وتحريف للحقيقة، ومن كناية عن الطبقة الوسطى وما فوق… وبين من “يحبّون الموت”، بكلّ ما في هذا التوصيف من ظلم أكبر. إذ يقصد به أولئك الذين يخافون من إسرائيل، ويحتمون بالحزب، والذين يتعاطفون مع أهل غزّة، وتجاوزوا خلافهم مع الحزب في لحظة الإبادة الجماعية. ومعهم كثيرون ممّن يكرهون الحزب ويختلفون مع عقيدته، دينياً وعسكرياً. لكنّهم قرّروا أنّه في “وقت الخطر….” يجب تأجيل النزاعات الداخلية. وبينهم من يحبّون الرقص واللهو والسهر وربّما الكحول، وفوقها قد يكون المجون.
القسمة الحقيقية: فقراء زادت الأزمة فقرهم، من الموظّفين المغلوبين على أمورهم، ومن فقراء جدد أفقرهم الانهيار وأنزلهم إلى مرتبة الفقر الاجتماعي، وإن لم يكن الفقر يعني الجوع… وأثرياء زادت الأزمة ثراءهم، أو أنهكتهم لكن ظلّوا أثرياء، وأثرياء جدد أثروا من الأزمة، ومصائبها كانت عندهم فوائدُ.
يعرف كثيرون أنّ بعض المؤمنين بـ”لبنان الساحة” متعهّدو حفلات وراقصون. وبعض المستفيدين من “لبنان المرقص” يزرعون المساجد والحسينيات. هذه لا تجبّ تلك.
أثرياء وفقراء لا محبّون للحياة وكارهون لها، هذه هي القسمة. والتحريف فيها مقصود.
اسألوا البنك الدولي وإحصاءاته عن الفقر والثراء.
محمد بركات- اساس