“إدارة التصعيد” في المنطقة: كيف تلائم طهران استرداد الهيبة مع منع (توسّع) الحرب؟
“إدارة التصعيد” في المنطقة، وفق وصف مستشار البيت الأبيض جون كيربي، باتت أكثر تعقيداً ممّا كانت عليه. وعلى الرغم من ذلك فإنّ هناك من لا يزال يأمل تكرار سيناريوهات ضبط الردود على ضربات إسرائيل الأخيرة. جو بايدن نفسه أقرّ بأنّ اغتيال إسماعيل هنيّة لا يساعد على وقف النار. والشكوك كثيرة في واشنطن في قدرة “البطّة العرجاء” الأميركية على الحؤول دون انفجار الجبهات. بل هي تواكب التصعيد بإرسال أساطيل عسكرية إلى المتوسّط والبحر الأحمر والقواعد العسكرية في المنطقة. وإذا كانت جهود منع توسّع الحرب متوقّفة منذ 7 أكتوبر على إسرائيل، فإنّها باتت الآن مرتبطة بمراجعة إيران لنجاعة سياسة “وحدة الساحات”. هذا إذا كانت فعلاً لا تريد توسيع الحرب.
باتت أميركا وإسرائيل تمارسان “وحدة” الساحات بفعّالية أكثر من ممارسة إيران لهذا الشعار. انقلب الشعار الذي وفّر على طهران التورّط في الحرب، ضدّها خلال الأسبوعين الأخيرين. فمن اليمن إلى العراق وغزة ولبنان وصولاً إلى إيران نفسها توالت الضربات. وحتى في سوريا التي حيّدها الأمين العام للحزب في تعداده للجبهات المفتوحة، تتعرّض أذرع الممانعة للقصف المتواصل. وعلى الرغم من أنّ اغتيال هنية غطّى على اغتيال القيادي في الحزب فؤاد شكر، ومع أنّ الاغتيالين حجبا القصف الموجع الذي نفّذته إسرائيل لميناء الحديدة قبل أسبوعين في اليمن… فإنّ تتابع الأحداث جعل القصف الأميركي للحشد الشعبي في منطقة جرف الصخر العراقية في مرتبة متأخّرة من الاهتمام الإعلامي. هناك سقط كثير من القتلى لميليشيا كتائب حزب الله العراقي ردّاً على قصفها قاعدة عين الأسد حيث القوات الأميركية. كما أنّ هذه العمليات حجبت الأنظار عن القصف الإسرائيلي لمواقع إيرانية وتابعة للحزب في درعا والقنيطرة جنوب سوريا، ثمّ في منطقة السيّدة زينب في محيط دمشق. عبّر نصر الله عن ذلك بقوله عن الردّ المنتظر من “الممانعة” إنّ ما يحدث لم يعد “جبهات إسناد” بل “معركة مفتوحة”. والخشية من استمرار الاغتيالات دفعت طهران إلى دعوة قيادات رئيسة في الحشد الشعبي إلى الانتقال إلى طهران في سياق تدابير الحماية.
هل يُقبِل نتنياهو على الهدنة؟
بذلك حقّق بنيامين نتنياهو ما كان يراهن عليه. فهو سبق أن ربط تساهله مع اتفاق الهدنة في غزة بتحقيق إنجاز اغتيال قياديين من حماس. راهن على أن يعوّض بشطب أمثال رئيس حركة “حماس” في غزّة يحيى السنوار، عن اضطراره إلى استنزاف جيشه بإطالة الحرب، لصعوبة “القضاء على حماس”. تلك المراهنة تحقّقت باغتيالين كبيرين أكثر أهمّية: إسماعيل هنية وفؤاد شكر القيادي في الحزب. يضاف إليهما تأكيده مقتل محمد الضيف الذي تنفيه حماس.
رئيس الوزراء الإسرائيلي عاد من واشنطن بنتائج يسعى إلى استثمارها قبل أن تعدّل التطوّرات في مفاعيلها:
تكريس التزام أميركا دعم أمن إسرائيل والدفاع عنها، من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، مهما كانت المخاطر عليها.
الأشهر الفاصلة عن الانتخابات الرئاسية هي الفرصة الوحيدة لنتنياهو كي ينجز ما يريد. فالرئيس جو بايدن أو مرشّحة الديمقراطيين كامالا هاريس، التي هي على يسار الرئيس الحالي، أو دونالد ترامب، كلّهم يريدون وقف حرب غزة بعد هذه الانتخابات.
بإمكان نتنياهو المماطلة في مفاوضات الهدنة وتأخيرها بالاعتماد على حاجة الحزبين إلى الصوت اليهودي في الانتخابات. لذلك يضع شروطاً حتى لو أغضبت الوسطاء، ولا سيما القاهرة، في ما يتعلّق برفح ومعبر فيلادلفيا ورفض تسلّم أيّ جهة فلسطينية المنطقة الحدودية مع مصر. وبعد العمليات التصعيدية الأخيرة يستخدم نتنياهو حجّته الدائمة بأنّه كلّما صعّد ضرباته يمكن دفع حماس إلى التنازل في المفاوضات.
لا أفكار بريطانية ولا تفاوض قبل الرّدّ
مع ذلك تشهد كواليس الاتّصالات الدبلوماسية محاولات لإحياء مفاوضات الهدنة، ولو لتحقيق مرحلتها الأولى القاضية بالإفراج عن بعض الرهائن الإسرائيليين مقابل أسرى فلسطينيين. وتشير مصادر واسعة الاطّلاع في هذا الصدد إلى أنّ الزيارة الأخيرة لوزيري الخارجية والدفاع البريطانيَّين لبيروت حملت أفكاراً. ويلفت مصدر معنيّ بالتفاوض لـ”أساس” إلى أنّ هذه الأفكار لم تحمل عروضاً ملموسة على الصعيد اللبناني، بل مجرّد تمنّيات بعدم توسيع الحرب. وكان الجواب أن لا نيّة لتوسيعها من قبل الحزب أو إيران.
افتراض التفاوض لن يتمّ اختباره قبل الردّ الإيراني المنتظر على الضربة انتقاماً لـ”شرف” طهران “وهيبتها”، كما وصف الأمر نصر الله. هذا فضلاً عن أنّ إسقاط هنيّة في العاصمة الإيرانية كسَرَ سمعة القوّة الردعية التي حرصت القيادة الإيرانية على ترسيخها عن نفسها في المنطقة والعالم. فنتنياهو يحاول تغليب صورة المنتصر على صورة القوّة الرادعة التي تمتّعت بها إيران. والأخيرة تحتاج إلى استرجاع مظاهر القوّة. وبات السؤال عمّا إذا كانت ستقوم بذلك تمهيداً لخطوة تراجعية تمنع المواجهة الشاملة التي لوّح بها نصر الله. لكنّ نتنياهو يواصل في المقابل المناورات كما يفعل بعد كلّ ضربة عسكرية يوجّهها، فيبدي استعداداً للتفاوض ثمّ ينسف مسوّدات الاتفاقات. هكذا يستوعب الضغوط، ويغري الوسطاء بخفض التصعيد.
السّقف الأميركيّ الإيرانيّ صامد؟
حتى اللحظة ما زالت المعطيات لدى الدوائر الضيّقة المتابعة لتفاعلات التصعيد الأخير تفيد بأنّ سقف التفاهم الأميركي الإيراني قائم، أي أنّ الالتقاء على منع توسّع الحرب ما زال ساري المفعول على الرغم من اهتزازه الكبير. والسبب الردعيّ الرئيسي لذلك هو رادع الخوف من الدمار المتوقّع على جبهتَي إسرائيل ولبنان.
يقول معنيون بالتدقيق في أهمّية هذا الرادع إنّ هناك مفاجآت في قدرات الحزب التدميرية داخل إسرائيل. فمن جهة إسرائيل لم تعد هناك مفاجآت لأنّها أظهرت قدراتها في غزة. هذا فضلاً عن أنّ حلفاء إيران الآخرين، أي الحوثيين والميليشيات العراقية، أظهرت قدرتها على بلوغ إيلات وتل أبيب أيضاً.
كسر قوّة الرّدع وعمق الاختراق
مهما يكون الرد، ومن الجبهات كافّة التي عدّدها نصر الله، فإنّ الكبرياء الإيرانية قد أصيبت بسبب نوعية الخرق الاستخباري الكبير باغتيال هنيّة. ولم يعد بإمكان طهران لوم دمشق على الاختراقات في الجسم الاستخباري السوري التي سمحت باصطياد القيادات الإيرانية الرئيسة في بلاد الشام. وهو اللوم الذي سمح بنسج الكثير من الروايات حول التبديلات في القيادات الأمنيّة السورية، وشكّل خلفيّة لتفسير تصفية مستشارة الرئيس السوري لونا الشبل. ولذلك أقرّ المدّعي العامّ الإيراني بالاختراق الإسرائيلي الكبير في اغتيال هنية. قال إنّه سيتعامل قانونياً مع أيّ إهمال أو أخطاء ومحاسبة العناصر التي ارتكبت العمل الإرهابي. ويوحي كلامه بأنّ المشتبه بهم في هذا المجال هم من الجهاز الأمنيّ والاستخباري الإيراني. فمهما كان الأسلوب الذي أودى بحياة رئيس حماس، بصاروخ أو بعبوة مزروعة، فهو ضيف المرشد في العاصمة الإيرانية. وهو ما يعني القدرة على الوصول إلى المرشد أيضاً. يضاف إلى ذلك أنّ الحزب، الذي أخلى مواقع في جنوب لبنان والبقاع، فاته اتّخاذ الاحتياطات اللازمة تحسّباً لعملية مماثلة للتي أودت بحياة أهمّ قائد عسكري لديه.
عليه يجب على إيران أن توازن بين الانتقام للضربة التي تلقّتها وبين المسؤولية الداخلية عن الثغرة في حساباتها المتعلّقة بعدم توسيع الحرب، وبين حاجتها إلى استرجاع القدرة الردعيّة.
بين خيار هنيّة وخيار مشعل
ثمّة جانب آخر من تفاعلات التصعيد الأخير يتعلّق بحماس وتموضعها المرتقب في إطار محور الممانعة. فالتقديرات حول من سيخلفه أخذت تتّجه نحو الرئيس السابق للمكتب السياسي خالد مشعل. وإذا صحّت التوقّعات في هذا الصدد، على هامش الدينامية المنتظرة للتصعيد المقبل، فإنّ الأوساط الفلسطينية الحياديّة تشير إلى الآتي:
هنية كان رمزاً لالتصاق الحركة بإيران. وهو ابن غزة المضطرّ إلى مراعاة تشدّد القيادة العسكرية فيها على الرغم من التنازلات التي قدّمها في المفاوضات على الهدنة. وبالتالي هو كان معنياً أقلّ من غيره بهاجس وحدة غزة مع الضفة. ومقتضيات توجّهاته الإقليمية ذهبت به، وفق هذه الأوساط، إلى حدّ العداء الشديد مع السلطة الوطنية الفلسطينية وصولاً إلى تخوينها في بعض الحالات.
مشعل أقلّ التزاماً بالخيار الإيراني للمقاومة. فهو من الرعيل الذي ركّز على بناء العلاقات مع التنظيم الدولي للإخوان المسلمين من جهة، وعلى العلاقات العربية مع قطر ومصر والتنظيمات الحليفة للمقاومة، ومع تركيا، قياساً إلى طهران. ومع أنّه شديد الانتقاد للخطّ السلميّ الذي تعتمده السلطة الفلسطينية، إلا أنّه تجنّب التعاطي معها من منطلق تخوينها. وهو من مواليد بلدة سلواد في الضفة الغربية.
تدعو هذه الأوساط في هذا الخضمّ إلى ترقّب ما سينتجه غياب هنية على الساحة الفلسطينية في العلاقة مع حركة “فتح” في ضوء الاتفاق الأخير في الصين على المصالحة بين التنظيمين الكبيرين.
وليد شقير- اساس