لماذا اغتال نتنياهو “المفاوض” إسماعيل هنيّة… ولماذا في طهران وليس في الدوحة أو إسطنبول؟

أول ظهور حقيقي لإسماعيل هنيّة هو عندما عُيّن رئيساً لمكتب الشيخ أحمد ياسين عام 1997، وهو مؤسس الحركة، ومربّي الفتيان الذين سيتشكّل منهم الجيل القيادي الأول من الحركة. وكان ياسين مصاباً بالشلل الكامل ومُقعداً على كرسي متحرّك، وبات هنيّة مرافقه الدائم، إلى أن اغتالته إسرائيل عام 2004 بغارة جوية. الصحبة التي دامت سبع سنوات بين الشيخ وتلميذه البارّ، جمعت بين أبناء القرية الواحدة (الجورة)، وتلك مسألة ذات مغزى، في البيئة الغزاوية، لا سيما اللاجئين منهم من المناطق القريبة أو البعيدة من القطاع. كما اجتمعت بين الاثنين، فضلاً عن الاقتناعات الفكرية، المهارات الخطابية.

سيرته.. من لاجئ إلى قائد

قد يكون إسماعيل هنيّة صاحب الوجه اللطيف من بين عشرات القادة السياسيين والعسكريين في حركة حماس، وحتى بالنسبة إلى الشخصيتين البارزتين اللتين سبقتاه إلى منصب رئيس المكتب السياسي للحركة؛ موسى أبو مرزوق بين عامي 1992 و1996، وخالد مشعل بين عامي 1996 و2017. وُلد من أسرة لاجئين في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة. وتختلف التقديرات في تحديد سنة ولادته هل هو 1962 أو 1963، ما يدل على الاضطراب التي عاشته أسرته. وتعود أصول الأسرة قبل النكبة إلى قرية الجورة بالقرب من مدينة عسقلان، وهي قرية الشيخ أحمد ياسين مؤّسس حماس. درس في مدارس الأونروا، وحصل على الثانوية من معهد الأزهر، ثم التحق بالجامعة الإسلامية في غزة. كان ناشطاً كغيره من زملائه الإخوان المسلمين، في الكتلة الإسلامية، وهي الذراع الطلابي في الحركة الإسلامية بغزة. تخرّج من الجامعة الإسلامية عام 1987، واختصاصه الأدب العربي، وتابع دراساته حتى حصل على الدكتوراه من الجامعة نفسها عام 2009. اعتقلته إسرائيل بعد اشتعال الانتفاضة الأولى عام 1987، لمدة 18 يوماً، ثم اعتقل مرة أخرى عام 1988 لمدة ستة أشهر. وفي العام التالي، دخل السجن الإسرائئيلي مجدداً حيث أمضى ثلاث سنوات في السجن بتهمة انتمائه إلى حماس، ثم نُفي إلى مرج الزهور في لبنان عام 1992 مع مئات من منتسبي الحركة. وفي كل هذه المحطات، لم يكن إسماعيل هنيّة شخصية بارزة في الحركة لا عسكرياً ولا سياسياً. ومسيرته فيها، كمثل المئات من روّاد الحركة. ولما عاد من المنفى إثر توقيع اتفاق أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير عام 1993، كان أكبر المناصب التي حصل عليها، عمادته للجامعة الإسلامية، ورئاسته للكتلة الإسلامية (الطلابية).

عُرف عن الشيخ أحمد ياسين، مهارته بالخطابة، وكذلك سيشتهر “أبو العبد” بمهارة الخطابة. اغتيال ياسين، ألقى الضوء على مرافقه إسماعيل، الذي لم يكن لينافس القادة الذين هم ملء العين والأثير، لا سيما الطبيب عبد العزيز الرنتيسي، صاحب الحضور القوي، والذي أصبح ناطقاً باسم أكثر من 400 فلسطيني، منهم إسماعيل هنيّة، أبعدتهم إسرائيل عنوة إلى مرج الزهور في جنوب لبنان، وكان منظّم حركتهم الاحتجاجية حين أنشأوا مخيم العودة هناك، والذي تحوّل إلى منصّة إعلامية وسياسية مؤثّرة، في المحيط اللبناني أولاً. ومع اغتيال الرنتيسي عام 2004، وكان تولّى قيادة الحركة عقب اغتيال الشيخ أحمد ياسين، استلم هنيّة قيادة الحركة في الداخل. وهنيّة هو على رأس الجناح المؤيد لانخراط الحركة في العمل السياسي، إلى جانب المقاومة المسلّحة، فنجحت الحركة بقيادته في الفوز بالانتخابات التشريعية مطلع عام 2006، وكان هو على رأس قائمة التغيير والإصلاح، فإذا به ينتقل خلال عامين، من موقع المرافق الدائم للشيخ أحمد ياسين، إلى منصب أول رئيس وزراء في السلطة الفلسطينية، تحت ظلال اتفاق أوسلو. وهذه هي المفارقة، ودليل على البراغماتية السياسية التي يتميّز بها هنيّة، أي أن تقبل حركة مقاومة لا تعترف بسلطة الاحتلال ولا بدولته، أن تكون على رأس السلطة التنفيذية الخاضعة عملياً في كلّ تصرّفاتها وسياساتها لقرار الاحتلال، سماحاً أو منعاً.

الانقسام… والتّقسيم في 2007

اندلع الخلاف لاحقاً بين حركتي فتح وحماس عام 2007، ونشب صراع مسلّح بين الحركتين في قطاع غزة، حيث سيطر مسلّحو حماس بقيادة هنيّة على القطاع، فأصبح للفلسطينيين تحت الاحتلال حكومتان، واحدة في الضفة الغربية برئاسة سلام فياض، وأخرى في غزة برئاسة إسماعيل هنيّة. لكنه عام 2014، قبل هنيّة التنازل عن منصبه، وتشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة رامي الحمد الله. وبعد ثلاث سنوات، انتخب هنيّة رئيساً للمكتب السياسي حلفاً لخالد مشعل. وهنا ستبدأ مرحلة جديدة مختلفة بشكل نوعي. فمع انتقال إسماعيل هنيّة إلى الخارج لتولّي العلاقات مع الدول والقوى المؤثرة، هيمن يحيى السنوار على مقاليد الأمور رئيساً للمكتب السياسي في القطاع، ففرض طابعه الخاص على مجريات الحياة؛ فللسنوار، مسيرة مختلفة تماماً عن هنيّة. هو مؤسس الجهاز الأمني للحركة، وعُرف عنه ملاحقته الشديدة للمتعاونين الفلسطينيين مع الاحتلال. وبسبب ذلك، حكمت عليه إسرائيل عام 1989 بأربعة أحكام مؤبد، و25 عاماً إضافية، بسبب تعذيبه أربعة متعاونين وقتلهم، قضى منها 22 عاماً، وخرج في صفقة التبادل عام 2011 بين إسرائيل وحماس، في صفقة إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط. وعلى هذا، فإن السنوار أبعد ما يكون عن العمل السياسي، وأقرب ما يكون إلى العمل الأمني والعسكري، ونتيجته التوافق مع القائد العام لكتائب عز الدين القسام محمد الضيف (تؤكد إسرائيل اغتياله منذ أسابيع)، وإطلاق أضخم هجوم على غلاف غزة. ومن الشائع أنّ من اتخذ القرار السنوار بالتنسيق الكامل مع الضيف، ولم يعلم به هنيّة إلا من وسائل الإعلام.

ما الهدف من اغتياله؟

تولّى إسماعيل هنيّة بعد عملية طوفان الأقصى دوراً نشطاً في التواصل مع الوسيطين القطري والمصري، للتوصّل إلى صفقة تبادل وهدنة مع إسرائيل. وكان مستغرباً اغتياله قبيل إنجاز الصفقة بعد طول مماطلة من نتنياهو. حتى إنّ المسؤولين الأميركيين الذين كانوا يعتبرون أنّ إسماعيل هنيّة “رجلاً سيئا”، وفق موقع أكسيوس، لكنهم كانوا يعتقدون كذلك أنه لا بدّ من التواصل معه لإنجاز الصفقة التي يريدها جو بايدن كآخر إنجازاته في ولايته التي تنقضي خلال عدة أشهر. تبرّأ الأميركيون من دمه، وأعلنوا عدم مسؤوليتهم عن قرار اغتياله. لكنهم في العمق، شعروا بخداع نتنياهو لهم، حصل منهم على إذن باغتيال القائد الرفيع في الجهاز العسكري لحزب الله فؤاد شكر، ليزيد من عنده على القائمة، اسم إسماعيل هنيّة، بعد أن اغتال نائبه في بيروت صالح العاروري في 2 كانون الثاني الماضي. بل إنّ الخبراء الإسرائيليين، رأوا أنّ اغتيال إسماعيل هنيّة لا قيمة له ولا أثر حقيقياً له في بنية حماس السياسية ولا في قدرتها الميدانية. وإن كان له أثر مباشر، فهو اغتيال المفاوضات الجارية؛ إذ إنّ نتنياهو لا يريد صفقة مع حماس، بل يريد استسلامها الكامل، ونفيها من القطاع، ونزع السلاح جذرياً.

لكن لماذا طهران؟

لكن صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية، تكشف جوانب أخرى، من عملية الاغتيال، فهي حين تعلّل سبب اغتيال هنيّة في طهران وليس في الدوحة أو إسطنبول، تقول إنّ إسرائيل تعهّدت بعدم التعرّض لهنيّة في الدوحة. ولا تريد التورّط في مشكلة مع أردوغان الذي هدّد أخيراً بالتدخل العسكري في غزة، كما أنّ تركيا عضو في حلف الناتو. فلم يبقَ إلا اغتياله في طهران. لكن لاختيار إيران موقعاً للاغتيال، أهدافاً أخرى تتجاوز نزعة الانتقام الإسرائيلية من كل متورط بقتال إسرائيل ولو بالتحريض، وكشفتها الصحيفة المذكورة. لقد كان الهدف الأول لنتنياهو إضافة إلى اغتيال المفاوضات مع حماس، استفزاز إيران، وإشعارها بتفوّق إسرائيل عليها، استخبارياً وعسكرياً، من أجل فرض إرادتها على القيادة الإيرانية كي تخنار المهادنة الشاملة لمحور الممانعة في المنطقة، باعتبار أنّ من يصل إلى غرفة نوم إسماعيل هنيّة في مضافة تابعة لقدامى المحاربين، وبحماية الحرس الثوري، بمقدوره الوصول إلى أيّ شخصية قيادية في إيران، مهما علا شأنها. هو من باب إرهاب الدولة القائدة للحركات الدائرة في فلكها، كي تحصل إسرائيل على مبتغاها: الشعور بالأمن بعد طوفان الأقصى، وترميم قوة الردع الإسرائيلية.

هشام عليوان- اساس

مقالات ذات صلة