نتنياهو… ماذا لو فازت هاريس: هل يقلب الطاولة على رؤوس الجميع ويفجّر حرب واسعة؟
بصمتان تركهما خطاب رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام الكونغرس، الأولى غياب المرشحة الرئاسية الديموقراطية كامالا هاريس، والثانية حجم التأييد الذي واكب كل فقرة في كلمة الرجل الآتي من غزة منتحلاً صفة “الفاتحين”.
وعلى الرغم من أن الخطاب لم يكن في حجم التوقعات التي سبقته واتخذ شكل عرض تاريخي وسياسي واستراتيجي وعسكري مركب لحرب حاول أن يضعها في مصاف الحروب العالمية المصيرية، فقد تمكن نتنياهو من ضخ بعض الحرارة في العلاقة المتوترة أو الفاترة بين واشنطن وتل أبيب، وتحديداً بين “اسرائيل الدولة” والحزب الديموقراطي بقيادة جو بايدن، على الرغم من موقف نائبته هاريس التي انحازت الى صف التيار العربي- الاسلامي- الأميركي الذي وازن بين ما ارتكبته “حماس” في “٧ أكتوبر” وما فعلته اسرائيل في رد الفعل.
والسؤال الذي يطرح نفسه مبكراً: ماذا لو فازت كامالا هاريس؟
الجواب سابق لأوانه طبعاً، لكن الواضح أن تاريخ العلاقات الاسرائيلية- الأميركية يؤشر الى أمرين جوهريين، الأول أن الفراق بين الحليفين هو من المحرمات شبه الأبدية، والثاني أن أميركا تعتبر اسرائيل “الابن” الذي لا تستطيع الاستغناء عنه مهما خالف وعاند وتمادى في غيه، وأن اسرائيل تعتبر أميركا “الأب” الذي لا تستطيع التخلي عنه مهما ضغط وناقض وحاسب لا فرق من يحكم في تل أبيب أو من يحكم في واشنطن.
وأكثر من ذلك، تعرف الولايات المتحدة أن الدول العربية مجتمعة لا يمكن أن تأخذ محل اسرائيل في الوجدان الأميركي مهما حاولت وجاهدت، نظراً الى تركيبة هذه الدول وتناقضاتها وخلافاتها وعقائدها أولاً، وثانياً لايمانها بأن ما تريده من أميركا هو المساعدة على حماية أنظمة الحكم أكثر من المساعدة على استعادة فلسطين أو على تعزيز فرص السلام مع الدولة العبرية.
هذا الانطباع العام في أميركا ليس أمراً جديداً وقد برز في لقاء بين وزير الخارجية السورية الراحل عبد الحليم خدام ومسؤولين أميركيين في زمن الاجتياح الاسرائيلي للبنان، عندما نُقل عنه وهو في حالة غضب، “أنتم لا تثقون في هذه المنطقة الا باسرائيل.. هل جربتم سواها مرة؟ لماذا لا تجربون سوريا مثلاً؟”، وقد كان يشير بذلك الى الالتزام السوري الكامل بهدنة الجولان.
وثمة جواب آخر يتخذ شكل السؤال: على من تراهن هاريس بديلاً من اسرائيل في حال استمر التباعد بين الطرفين؟ هل تستطيع الرهان على العرب للجم الطموحات العسكرية الايرانية في المنطقة؟ هل تستطيع الرهان عليهم لوقف البرنامج النووي الايراني من جهة، ولجم نشوء الميليشيات العقائدية المتطرفة في أكثر من دولة عربية من جهة أخرى وتحديداً في اليمن المجاور؟ هل تستطيع أن تقنع ايران بالتخلي عن السلاح في مواجهة اسرائيل والدخول معها في تطبيع جدي يصل الى حد معاهدات السلام؟ وهل تستطيع اقناعها بالتخلي عن الحوثيين الذين تتحكم من خلالهم بالبحر الأحمر وأمن الخليج معاً، وعن “الحشد الشعبي” الذي تهيمن به على القرار الاستراتيجي في بغداد، وعن “حزب الله” الذي تسيطر به على كل مفاصل الحكم في بيروت وتتسلل من خلاله الى أوروبا وافريقيا والأميركيتين، وعن حركة “حماس” التي تزرعها شوكة في خاصرة إسرائيل في مكان وفي صدر السلطة الفلسطينية في مكان آخر؟ والمقصود هنا ليس القول إن إسرائيل تستطيع أن تفعل كل ذلك، لكن المقصود أن هاريس، وانطلاقاً من هذا الواقع، لن تتأخر كثيراً قبل الوصول الى الحقيقة التي تقول إن ايران لن تعطيها ما تطمح اليه، وان العرب لن يكونوا لا رأس حربة في هذا المجال ولا حتى حديقة خلفية، الأمر الذي سيعيدها سريعا الى المربع الأول أي الى اسرائيل ولو تحت شعار “مرغم أخاك لا بطل”.
وليس سراً أن نتنياهو رد على غياب هاريس بطريقة غير مباشرة، عندما أعلن في قلب الشرعية الأميركية أن بلاده تقاتل في الشرق الأوسط دفاعاً عن اسرائيل وأميركا معاً، وكأنه أراد أن يقول لها إن التيار الذي تعوّل عليه ليس سوى فقاقيع في الهواء، وان التخلي عن اسرائيل سيجعل الولايات المتحدة قوة عارية ومكشوفة في منطقة محشوة بالألغام والكمائن والأعداء.
وما قاله نتنياهو لم يكن مختلفاً لدى مصدر ديموقراطي معارض عندما علق على غياب هاريس قائلاً: “لا أعرف الى أين تريد هذه المرأة الوصول”. وأضاف: “ان الدخول الى البيت الأبيض لا يمكن أن يمر عبر الطلاق مع اسرائيل، وان التغلب على دونالد ترامب لا يعني التخلي عن بنيامين نتنياهو”.
وتابع: لم يحدث في تاريخ الصراع العربي- الاسرائيلي أن بدت أميركا وكأنها تجافي اسرائيل من أجل “منظمة ارهابية”، كما يحدث الاَن مع حركة “حماس” ومحور الممانعة ولو بطريقة غير مباشرة”، مشيراً الى أن الوقت لا يزال مبكراً كي تعتقد هاريس أن أعداء اسرائيل هم الذين يصنعون الرئيس في أميركا وليس العكس.
وسط هذا الجو المعقد والقاتم، لا بد من أسئلة يتداولها الكثير من الخبراء والمراقبين، منها أولاً ماذا يمكن أن يفعل اللوبي اليهودي في أميركا للحؤول دون وصول المرأة الجامحة الى البيت الأبيض؟ وماذا ثانياً يمكن أن يفعل ترامب لتعزيز فرص العودة الى السلطة؟ وماذا ثالثاً يمكن أن يختار الناخب الأميركي، هل يتخلى عن ترامب الذي يتردد أن لايران اصبعاً في محاولة اغتياله أم يلجأ الى رد فعل عكسي؟ هل يختار رابعاً هاريس المرأة الملونة، وهو الذي اختار قبل سنوات رئيساً أسود وصف بأنه أضعف رئيس في تاريخ الولايات المتحدة؟ وأكثر من ذلك هل يتخلى خامساً عن “ذكوريته” ويختار امرأة شبه مجهولة لقيادة أقوى دولة في العالم، هو الذي خيّب قبل ثماني سنوت امرأة أميركية مخضرمة هي هيلاري كلنتون؟ وأخيراً هل يختار سادساً امرأة يسارية غير متدينة تؤيد الاجهاض في مواجهة رجل يدعو الأميركيين الى الانجاب والعودة الى الايمان المسيحي في بلد يؤمن ثمانون في المئة من سكانه بالله والأديان السماوية؟
أسئلة كثيرة تبحث في معظمها عن اجابات ناجعة، لكن الخوف الآن أن يقوم نتنياهو المتوجس من احتمال وصول هاريس الى المكتب البيضاوي، بقلب الطاولة على رؤوس الجميع والقضاء على ما بقي من غزة ومن قادتها، وتفجير حرب واسعة ضد “حزب الله” الذي يزوده كل يوم بما يحتاج اليه من ذرائع كي يحرك دباباته نحو الجنوب، متجاهلاً الواقع الذي يقول ان التهدئة ستكون في مصلحة هاريس وليس ترامب.
الغريب في الأمر أن محور الممانعة لم يقرأ خطاب نتنياهو جيداً وتلميحاته الى الخيارات العسكرية التي تضرب فرص الديموقراطيين الساعين الى انجاز سياسي خارجي قبل فتح صناديق الاقتراع، وتلهى بتعداد أعداد الذين قاطعوا الضيف الثقيل، والتركيز على حفنة متظاهرين خارج مبنى الكونغرس، ولم يقرأ أيضاً توقيت القرار الألماني باقفال المركز الاسلامي الايراني في هامبورغ و٥٣ مركزاً اَخر تابعاً ل “حزب الله”، بالتزامن مع انطلاق محاكمة هادي مطر الذي كلفه اغتيال الكاتب البريطاني سلمان رشدي، اضافة الى رصد ايرانيين في فرنسا يخططون للاعتداء على الرياضيين الاسرائيليين المشاركين في أولمبياد باريس.
انه العقل العربي الذي ازداد تراجعاً بعدما امتزج في بعضه بالعقل الايراني الذي يرفض الاقرار بأن العالم كله تقريباً بات ينظر الى ايران وحلفائها كما كان ينظر الى “القاعدة” قبل سنوات، وبأن “الثورة الاسلامية” التي انطلقت في العام ١٩٧٩ لا يمكن أن تصل الى عالم متوجس ومستنفر، على أجنحة الصواريخ والمسيرات.
انطوني جعجع- لبنا الكبير