ميليشيات إيران…قبّعتان على رأسٍ واحد: ضرب تل أبيب… والسّعوديّة!
بفارق 12 يوماً، هدّدت القوّات الحوثية بقصف مطارات المملكة العربية السعودية ومصارفها (7 تموز الجاري)، وقصفت عاصمة الاحتلال الإسرائيلي، تل أبيب (19 تموز). وهذا دليل لا يرقى إليه الشكّ على أنّ دوراً جديداً اشتركت فيه الميليشيات الإيرانية، وهو “وحدة الساحات” ضدّ إسرائيل. لكنّ ذلك لا ينهي وظيفتها الأساسية التي أُنشئت من أجلها: ضرب العرب، وتهديدهم، وابتزازهم.
ثلاثة قصفوا تل أبيب في تاريخنا الحديث: صدّام حسين، وإيران قبل أشهر، والحوثيون قبل يومين. الأوّل كان يحمل شرعية عربية كبيرة. الثانية تحاول “تبريد” حربها المستمرّة ضدّ العرب منذ عقود، وأن تحفظ ماء وجهها بعد قصف إسرائيل قنصليّتها في عاصمة سوريا. والطرف الثالث ميليشيا إيرانية كان دورها قبل 7 أكتوبر هو تقسيم اليمن ومهاجمة دول الخليج… فهل يكفي أن تقصف تل أبيب كي تكتسب شرعية الخروج من ثوبها السابق؟
ليس قليلاً ولا تفصيلاً أن يقصف الحوثيون عاصمة إسرائيل في هذه اللحظة. هذه البصمة تأكيد أنّ “وحدة الساحات” لم تكن مناورة إعلامية أو كذبة تعبويّة. بل هي خطّة إيرانية معدّة مسبقاً ومجهّزة. وها هي مراحلها تتكشّف تدريجياً، من بيروت إلى صنعاء، مروراً بـ”غرفة القيادة” في طهران، وما بينها غزّة، كبش الفداء الذي جرت التضحية به على مذبح استعادة شرعية “الميليشيات” الإيرانية الشيعية في المدن العربية السنيّة.
ليس خفيّاً على أحد أنّ الهدف الأساسي من عملية “طوفان الأقصى”، على ما تقول النتائج، لم يكن تحرير فلسطين، ولا حتّى تحسين ظروف أهل غزّة التي كانت “مُحاصَرة” وباتت “مُدمّرة” عن بكرة أبيها، ولا كان الهدف من هذه العملية، على ما تُظهر الأحداث اليومية، هزيمة إسرائيل التي تتوسّع في قواعد الاشتباك والقصف، وتتعامل مع دول مثل سوريا واليمن ولبنان على أنّها ساحات تمرين لطائراتها، الحربية الكلاسيكية أو المسيّرة المتطوّرة، فتقصف وتقتل وتنفّذ اغتيالات دقيقة ومعقّدة، وتفجّر على هواها، ولا كان هدف “طوفان الأقصى” هو “التخلّص من الاحتلال، واستعادة الحقوق الوطنية، وإنجاز الاستقلال ونيل الحرّية كباقي شعوب العالم وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلّة وعاصمتها القدس”، على ما جاء في وثيقة نشرتها “حماس” في 21 كانون الثاني 2024 لتشرح أسباب “الطوفان”.
ما هو الهدف الأساسيّ من “طوفان الأقصى”؟
خرج بعد 7 أكتوبر (تشرين الأوّل 2023) عشرات المسؤولين في محور الممانعة، وتحدّثوا كيف أنّ هذه العملية “أوقفت قطار التطبيع”. لم نسمع كثيرين منهم يتحدّثون عن الدولة الفلسطينية أو عمّا ورد في البيان رقم واحد الذي أعلنته حركة “حماس” في 7 أكتوبر، ذلك الذي بشّر بأنّ “اليوم هو يوم المعركة الكبرى لإنهاء الاحتلال الأخير على سطح الأرض”.
لم ينتهِ الاحتلال في فلسطين. دمّرت إسرائيل غزّة كليّاً تقريباً. وازدادت توحّشاً في الاستيطان على أراضي الضفّة الغربية. ودخلت رسمياً على خطّ تدمير البنى التحتية في اليمن.
في ما يعني لبنان، أزالت جزءاً كبيراً من قرى جنوب لبنان الأمامية على الحدود، مع أكثر من 15 ألف وحدة سكنية دمّرتها كليّاً أو جزئياً، و20 ألف وحدة سكنية تعرّضت لأضرار متنوّعة. واحترق 17 مليون متر مربّع من الأراضي المزروعة. واستحال حصاد 12 مليون متر مربّع من الأراضي المزروعة، بما يعادل خسائر في 30 مليون متر مربّع. إضافةً إلى تضرّر البنية التحتية لجهة الطاقة والمياه والطرق في عموم الجنوب، وصولاً إلى النبطية. والأهمّ بالطبع هو الأرواح، مع استشهاد أكثر من 100 مدنيّ، وما يقارب 500 شهيد بين مدنيّ وعسكريّ في صفوف الحزب.
فما هو الهدف الأساسي من “طوفان الأقصى” إذاً؟
هذا سؤال إجابته تندرج تحت عنوان “السّهل المُمتَنِع”.
فلنحاول الاقتراب من الإجابة عليه.
الشّرعيّة السنّيّة: “الجماعة”.. لطيّ 7 أيّار
استبقت إيران “طوفان الأقصى” بمصالحة المملكة العربية السعودية في “اتفاق الصين”، قبل 7 أشهر من بداية الحرب. وذلك لتبريد “الجبهة” مع العرب، التي أشعلتها بالميليشيات والقصف والتدمير منذ عقدين. وربّما تكون هذه “هدنة”، تمهيداً للحرب مع إسرائيل، قبل أن تعود حليمة إلى عاداتها القديمة.
كما استبقت “الطوفان” بالعمل لسنوات على مصالحة مع تنظيم “الإخوان المسلمين”. بدأت في 2018 بتقارب إيراني تركي. وفي العام نفسه استُعيد التواصل بين “الجماعة الإسلامية” في لبنان وبين الحزب. في 2020 جرى أوّل لقاء بين الأمين العامّ للحزب وبين الأمين العامّ للجماعة عزّام الأيوبي. وبالتعاون مع “حماس”، استطاع الجوّ القريب من الحزب انتخاب أمين عامّ جديد هو الشيخ محمد طقوش، في أيلول 2022. وفي كانون الأوّل وشباط 2023 زار وفد من “الجماعة” سوريا لأوّل مرّة منذ اندلاع الثورة السورية، بعد قطيعة 10 سنوات. واستمرّ التنسيق السياسي والأمنيّ في تصاعد مستمرّ، إلى أن فوجئ اللبنانيون في 18 أكتوبر (تشرين الأوّل 2023) بإعلان “قوات الفجر”، باعتبارها الذراع العسكري لـ”الجماعة”، تنفيذ أولى عملياتها ضدّ إسرائيل انطلاقاً من جنوب لبنان، ودخولها “وحدة الساحات” إلى جانب الحزب وميليشيات إيران.
هكذا بات للحزب شريك سنّيّ في لبنان على المستوى السياسي، وقبلاً وأوّلاً في الميدان العسكري. وهذا حلمٌ بدا بعيد المنال في لبنان في سنوات 2007 و2008، حين كانت المواجهات المذهبية في شوارع لبنان تسقط دماء السنّة بمواجهة الشيعة، والعكس. من محور “بربور – الطريق الجديدة”، وانتهاءً باتفاق الدوحة بعد 7 أيّار 2008، مروراً بأحمد الأسير وحكايته في صيدا، وليس انتهاءً بدماء الطفل حسن غصن الذي سقط بنيران الحزب في خلدة في آب 2020.
الشّرعيّة الفلسطينيّة… هل تصل إلى اليمن؟
بدماء الفلسطينيين، تحاول إيران أن تبني صورة جديدة باعتبارها “شريكة”، بل و”قائدة” للشوارع السنّيّة، انطلاقاً من شرعية الدم الفلسطيني، السنّيّ، العربي، ذلك الدم الذي سقط وهو يأتمر بأوامر إيران، شرعية مواجهته إسرائيل من داخل فلسطين.
دعونا لا ننسى أنّه في 3 حزيران الماضي رفضت إيران مبادرة الرئيس الأميركي جو بايدن لوقف إطلاق النار في غزّة، وذلك بعدما كانت “حماس” قد أبدت تجاوباً اتّجاهها. وهذا دليل جديد على أنّ “غرفة العمليات” في طهران هي التي تقرّر، وهي التي تمسك الجزء الأكبر من قرار “حماس”، إن لم يكن القرار بكامله.
إيران نفسها تحاول أن تضيف إلى صورتها الجديدة في المنطقة، شرعية الدم اللبناني، السنّي، العربي، الذي يسقط في صفوف “الجماعة الإسلامية” في جنوب لبنان وبقاعه، وربّما بيروت لاحقاً على ما هدّدت إسرائيل مقرّ “الجماعة” البيروتي.
أمس الأوّل حاولت إيران أن تبني صورة “بطولة” جديدة لقوات الحوثيين اليمنية. تلك القوات التي منذ إنشائها لم يكن لها سوى هدف وحيد، هو تقسيم اليمن، وإيجاد موطىء قدم لإيران في البحر الأحمر وبحر العرب. ثمّ قصفت دول الخليج، من مكّة المكرّمة إلى موانىء الإمارات ومدن المملكة العربية السعودية. وكانت مهنة هذه القوات ترهيب دول الخليج وتهديدها، وصولاً إلى تهديد الملاحة البحرية العالمية.
شرعيّة “سنّيّة”… للحوثيّ المعادي للعرب
خلال الأشهر الماضية شاركت القوات الحوثية في ضرب إيلات الإسرائيلية، وفي ضرب السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر. لكن قبل يومين، في 19 تموز الجاري، حين أعلن الحوثيون أنّهم قصفوا تل أبيب، بدا أنّ “غرفة العمليات” الإيرانية تريد أن ترفع من “شرعية” الحوثيين قبل نهاية هذه الحرب.
الحرب ربّما تقترب من نهايتها. وقبل أن تضع أوزارها، صدر قرار بأنّ الحوثي يجب أن يتحوّل من ميليشيا مارقة، تقصف العرب والسنّة ودولهم الوطنية، إلى “بطل” يقصف تل أبيب، كي تضعه المخيّلة العربية إلى جانب صدّام حسين. لكن بنسخة إيرانية أقرب إلى الكاريكاتور.
أسئلة كثيرة يجب أن نطرحها:
– هل يكفي ميليشيات قتلت ودمّرت وقصفت العرب طوال عقدين، أن ترسل طائرة مسيّرة إلى تل أبيب، كي تحصل على شرعية معنوية ولاحقاً سياسية، من الوجدان العربي والسنّي؟
– هل هذه الطائرة المسيّرة إعلان نهائي بأنّ هذه الميليشيا قرّرت أن “تحرّر فلسطين”؟ وفقط فلسطين؟
– في 7 تموز الجاري، هدّد الحوثيون بأنّهم سيقصفون مطارات السعودية ومصارفها… فهل هناك مسعى لتحويل هذه الميليشيات إلى “أبطال” يلبسون قبّعتين: واحدة لتحرير فلسطين، والثانية “لتحرير مكّة”، على ما ذهبت أدبيات الممانعين قبل اتفاق الصين في آذار 2023.
قبّعتان، على رأسٍ واحد إذاً:
– قبّعة إيرانية لتهديد العرب وابتزازهم.
– وقبّعة “عربية” تنتحل صفة “تحرير فلسطين”.
مسيّرة واحدة لا تكفي. ولا سرب مسيّرات. ولا حتّى سنوات من قصف تل أبيب.
محمد بركات- اساس